نضوج ثمار الرحمة في حياة المؤمن التلميذ على وهج شمس المسيح
نضوج ثمار الرحمة في حياة المؤمن التلميذ على وهج شمس المسيح
لقاء التعليم المسيحيّ لعيلة مار شربل عنايا الجمعة 23 أيلول 2016
مع الخوري بيار سمعان
رعية مار الياس الحيّ - ميروبا
مقدمة:
ترتبط الرحمة على العموم بالله المنحني على الإنسان والخليقة، وتأخذ كلّ أبعادها في الله المتأنّس بشخص المسيح-الله المتجسّد. لم يكن تجسّد الله، في المسيح حدثاً عرضيّاً، بل جوهريًّا حين "أخلى ذاته آخذاً صورة العبد" (فيليبي 2/ 6).
من يحبّ يحصل فيه تبدّل!. وفي هذا التدبير دخل شيء مصيريّ على الله وعلى التاريخ، دخلت الطبيعة الإلهيّة على الطبيعة البشريّة، ودخلت الطبيعة البشريّة على الطبيعة الإلهيّة في المسيح، وكلّ ذلك بسبب حبّه المدهش. في شخص المسيح تعانق اللاهوت والنّاسوت وتمّت المصالحة بينهما. بهذا المعنى قال قداسة البابا فرنسيس في مرسوم إعلان سنة الرحمة. "يسوع المسيح هو وجه رحمة الآب"، وبالتالي، تفيض هذه الرحمة من "الله مصدر الرحمة المطلقة، وبما أنّ الله خلق الإنسان على صورته كمثاله، بات الإنسان حقل ترجمة هذه الرحمة، وبالتالي، تفيض أعمال الرحمة من الإنسان بصفته البنويّة التي بموجبها يشهد بأنّ الله في المسيح مرجعيّته، ويشهد في عيشه هذه الرحمة في بعدها التطبيقي مع إخوته البشر وفي بيئته الوجوديّة تحت سقف "بيتنا المشترك"، بأنّ الله هو نبع الرحمة. لا انتقاء في الرحمة لأنّ الرحمة تفيض من الحبّ الإلهيّ المطلق والمتجلّي على الصليب في شخص يسوع المسيح الذي قدّم ذاته كنموذج مطلق لكمال الحبّ اللامحدود. كلّ شيء في الله لامحدود، وفي المفهوم المسيحي، "لا محدوديّة الحبّ" لا توجد إلّا في الله وحده.
فبات التعبير عن الحبّ يتمّ بعطاء الله ذاته لمن يحبّ، أي لكلّ إنسان بامتداداته البيئيّة في بيتنا المشترك، لأنّه "يشرق شمسه على الأشرار والصّالحين ويسكب غيثه على الأبرار والظالمين" (متى 5/ 45).
1- من الشجرة الأولى... حتى الشجرة الأخيرة.
إنّ مهمّة الشجرة أن تعطي ثماراً، "لا يُجنى من الشوك عنب ولا من العوسج تين" (متى 7/ 16)، ف"كلّ شجرة صالحة تثمر ثماراً صالحة، وكلّ شجرة رديئة تثمر ثماراً رديئة" (متى 7/ 17). "من الثمرة تُعرَف الشجرة" (متى 12/ 33). فالشجرة تنتهي بأن تكون الإنسان صاحب الأعمال التي تعبّر عنه. والثمار هي أعمال الإنسان التي هي خلاصة كلّ كيانه.
تتميّز الأشجار عن النباتات الأخرى بأنّها تعطي ثماراً. فالشجرة التي لا تعطي ثماراً يطلب صاحب الكرم ان تُقلع لأنّها تعطّل الأرض.
جميلٌ هذا النضج الذي يمرّ بالألم تحت الشمس وتفاعل النهار والّليل بين الأوكسجين والآزوت وغيره. تحيا الطبيعة الألم والحب في التفاعل التحوّلي المؤلم ولكنّه معطي الحياة. لا حياة بلا مرور بالموت. هذا هو منطق الحبّ والعبور من مرحلة إلى مرحلة أنضج، والمسيح هو شمس الملكوت في أورشليم السماويّة.
وبه ومعه وفيه يصبح المجتمع الملكوتي مجتمعاً نقيّاً وبارًّا يستمدّ فكره وكلامه وتصرّفاته من علاقته بالمسيح نبع الرحمة وخدمة الإنسان القائم بأعمال الرحمة على خطى سيّده وفي أنوار شمس المحبّة والرحمة الكونيّة، ويقظته على انتمائه إليه. هذه الأورشليم السماويّة هي بيئة صافية نقيّة تفوح فيها عطور القداسة من أريج المحبّة والرحمة... ونحن تلاميذه ننضج على وهجه.
على وهج هذه الشمس الدّافئة التي تنساب في أعماق المؤمنين بالحبّ الفادي، يتتلمذ المندهشون وينهلون من أعماق ما في المعلّم من حبّ ورحمة وفعاليّة وحنان ورقّة!
تشعّ هذه الشمس بإشراقتها التي يتلقّفها الحالمون بها مثل زكّا العشّار، والمنتمون إليها مثل سمعان بطرس والمخطوفون بها مثل شاول-بولس، والسائرون إثرها بطواعيّة مثل متى العشّار والمأخوذون بحبّها مثل التلميذ الحبيب وشربل الحبيس و... هذا هو كلّ تلميذ تخطفه هذه الشمس من ذاته وتهيم به في حبّ من السّخاء والرحمة حتى حملها إلى أقاصي الأرض.
إنّها شمس الفادي الكلمة، الذي لا يترك أحداً في لامبالاة الحياديّة. فمن تلفّه هذه الشمس وتسطع فيه، تخطفه من ذاته وتنتزعه من استقراره، وإن أبى يصبح حزيناً مثل الشاب الغنيّ!
2- المسيح-الحبّ "أغابيه"
يسوع المسيح هو الحبّ المتألق على الصليب لتتعانق فيه المحبّتان: العموديّة والأفقيّة، محبّة الله ومحبّة الإنسان، أهل الشمال وأهل اليمين. إنّه حامل الخروف الضال على كتفيه والعائد به بغمرة فرح إلى الخراف التسعة والتسعين. هوَ الذي يعلّم التسعة والتسعين أن يحبّوا الخروف الضال، ويعلّم الخروف الضال أن يعود إلى الحظيرة بشوق إلى عائلته التسعة والتسعين.
إنّ عرس الأخوّة والمحبّة الفادية، هو عناق الرحمة والتجاوب مع هذه الرحمة في الالتزام الحياتي. وحده الذي يحبّ ويتفاعل معه من يحبّه يستطيع أن يكون سعيداً.
فمعطي الحياة لمَن لا يأخذها يتألّم آلاماً مريرة. هذا هو "الحبّ-الأغابيه" الذي عاشه يسوع في بستان الزيتون. لقد أحبّ حتى أعماق أحشاء الرحمة، وكانت صدمته القاتلة، التي دفعته إلى التأوّه: "نفسي حزينة حتى الموت!" (متى 26/ 38)، حين رأى أن البشريّة زاحفة صوب الهلاك بزحمة وتدافع مدهش. لقد أعطى للبشريّة كلّ شيء، كلّ الخلاص بلا حساب، ولم يحتفظ بشيء لم يعطهم إيّاه، ولكن هل البشريّة تنهل من فيض هذا النهر الذي أفاضه عليها وتشرب، وتتحوّل، وتتوب، وتستيقظ، وتبكي، دموع سمعان النّاكر حين صاح الدّيك؟
لقد هتف يسوع، قبل آلامه في ذلك العشاء السرّي، والغسل الكونيّ المتدفّق حناناً وحبّاً ورحمة: "أحبّوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم. ما من حبّ أعظم من حبّ من يبذل نفسه عن أحبّائه" (يو 15/ 12- 13).
لا يقوى أهل التراب على سماع هذه ال"كما" المشتملة على أن نكون مثل المسيح نموت عن البشريّة لإيصالهم إليه هو شمس الحقّ والبرّ ومعطي الحياة بملئها. حتى الآن لم نتعلّم أن نحبّ كما يجب لنصبح تلاميذ المعلّم القائل: "إذا أحببتم بعضكم بعضاً عرف العالم أنكم تلاميذي" (يو 13/ 35). هل نفعل هذا؟ وهل فعلاً نحن تلاميذه؟ كيف نحبّ بعضنا بصفاء وغيرة على خلاص العالم وبتجرّد وحبّ ورحمة ليكتشف العالم أن المسيح حيّ فينا؟ هل المسيح حيّ فينا؟... ونحن تلاميذه، نشهد لرحمته برحمتنا.
فالدّور الذي على الإنسان أن يقوم به هو قبول هبة المسيح والتفاعل معها. وحين يقبلها تحوّله. وما إن يتحوّل حتى يصبح رسول هذه المحبّة والرحمة. من يشعر برحمة الله بشكلٍ حاد ويقظ ويعش مفاعيلها يحترق غيرة على إخوته كلّ البشر الذين يغيبون في روتين اللامبالاة أو الرفض والغريزة التي تقتل ما هو خاص بالإنسان وتشوّه صورة الله فيه.
مع المسيح التلميذ يُمَسّ ويتحوّل ويستيقظ ويغار على محبّة المسيح وعلى خلاص البشر إخوته، تسكنه رحمة المسيح. ومن مقوّمات التلميذ أن يقيس حياته باستمرار وأفكاره وأفعاله على مشيئة المعلّم. فيسأل نفسه دائماً هذا السؤال: هل المسيح فخور في أفكاري وأقوالي وأفعالي أمام الآب السماوي وملائكته؟ هل أتّخذه مرجعيّة لي وقدوة في كلّ شيء؟ إنّ رحمته اللامحدودة والنّابعة من فيض حبّه الفادي تستدعيني لأن أقلّده وأرحم إخوتي كلّ البشر كما هو يرحمني. إن لم أرحم سوف لن أستطيع أن أنال منه الرحمة. لأنّه كما أنّني أنا طريقه إلى إخوتي البشر، إنّهم طريقي إليه. والرحمة تفتح الطريقين! إن لم أرحم إخوتي وأهرع إلى مساعدتهم عبر إعطائهم شهادة حياة عن إنتمائي إلى يسوع أعطّل رحمته عنّي وأنفي عنّي صفة التلميذ. فالتلميذ ليس أفضل من معلّمه، فكما أن المعلّم يعمل على خلاص البشريّة في نهجه الحياتي، كذلك على التلميذ أن يعمل على خلاص إخوته كلّ البشر ليصبح هو بدوره صورة المعلّم وحضوره كما أن يسوع صورة الآب وحضوره.
خلاصة
كما أن كلّ ما قام به يسوع هوَ ترجمة لمشيئة الآب. فالتلميذ هوَ حضور المسيح في هيكل العالم، كما أن الكاهن هوَ مسيح آخر في الأسرار وعلى المذبح. وهذا هوَ وضع كلّ مسيحيّ في العالم. إنّه شاهد على انتمائه إلى المسيح، يُجسّد حبّه ورحمته في العالم.
الشجرة تُعرَفُ من الثمرة، والثمرة هي أفكار التلميذ وأقواله وأفعاله المترجمة لكلّ كيانه والمتطابقة مع بعضها ومع مشيئة المسيح المعلّم. فالمعيار هوَ محبّة المسيح المتجسّدة في محبّة لإخوتنا البشر بالتزام عمليّ يشمل كلّ كيان الإنسان واهتمامه ووعيه وحضوره واندفاعه وغبطته وجاذبيّته. فمَن يقدّم كلّ كيانه لمَن يحبّ ويقود الذين يحبّهم إلى مَن يحبّ، يصبح سعيداً ويحقّق ذاته في هذه السعادة التجرّديّة.
أسئلة للتفكير والتأمل
- هل المسيح شمس حياتي؟
- وهل أرى العالم من خلال المسيح وحبّه وتضحياته ورحمته؟
- هل مَن يراني يرى المسيح فيّ؟
- هل أدع شمس المسيح تنيرني وتحرقني وتنضّجني وتوقظني على علاقتي الشخصيّة به واختباري المميّز معه؟
- هل إيماني تقليدي أم نابع من اختباري الشخصي لعلاقتي بيسوع؟
- ما الذي يتغيّر فيّ كلّ يوم عبر علاقتي به؟
- وكيف أقدّم المسيح من خلال حياتي إلى إخوتي البشر بشغف لآتي بهم إليه بغيرة؟ هل أعامل إخوتي البشر وأرحمهم كما اطلب من يسوع أن يعاملني ويرحمني؟