بين الماضي والحاضر والمستقبل - الخوري أنطوان بشعلاني
عيلة مار شربل - عنايا الجمعة 26 تموز 2002
الأب أنطوان بشعلاني
الموضوع: "بين الماضي والحاضر والمستقبل"
في زمن الاضطهاد عاش المسيحيون زمن نعمة وقداسة، متعلقين بتعليم المعلّم، متحلقين حول تلاميذه ورسله. كانت حياتهم صفحات إنجيل معاشة، مَن تأمّلَ فيها اكتشف وجه المسيح التواضع والمحبة والخدمة. كان روح الله يشعّ من وجوههم، والحق ينبع من مواقفهم، والمسؤولية تتجلى في خدمتهم، والشهادة تتجسد في أعمالهم، والمحبّة تهرق كلّ يوم في بذلهم ذواتهم في استشهادهم. كانوا الإنجيل، وكان الإنجيل هم، لأنهم كانوا حضور يسوع في العالم.
ولكن عندما حلّ زمن السلم حمل معه زمن الرخاء والرخاوة، زمن الميوعة والخلاعة، زمن تداخلت فيه حضارة العالم المزيفة بحضارة المحبة، ومبادىء الحياة الفانية بمفاهيم الحياة الخالدة. وابتعد الكثير من قدّيسي الأمس عن عيش جذرية وروحانية الإنجيل، ليدخل الى حياتهم حب المال والسلطة والشهوة والجنس.
أمام هذا الواقع كان لابد من أن يقول أحدهم "لا". فكانت نشأة الحياة الرهبانية. هذه الحياة التي ما كانت يومًا هروبًا من واقع ولا خوفا منه إنما على العكس وقفة جريئة لتقول "لا" بكل جرأة وشجاعة وبكلّ حبّ ووداعة .
1. هؤلاء الرهبان، جماعة قالت "لا" ليس للمال إنما لعبودية المال. ليقولوا نعم لربّ واحد هو يسوع المسيح ملك الملوك الذي يريدون أن يملك فقط على حياتهم وقلوبهم. والربّ الأمين لوعوده اهتم بهم كما اهتمّ بطير السماء وزنبق الحقل. فعاشوا أصحاء، أقوياء مما قدمته الطبيعة لهم من عند الخالق من قوت. أو ليس نذر الفقر الذي ينذره الرهبان من القديم الى اليوم سوى هذا الاتكال الكامل على العناية الالهية. وهذا القرار بأن يكون الله هو الغنى الحقيقي الوحيد. اكتفى قديسنا شربل من هذه الحياة بثوب رهباني قدّسه هو بالأمانة لمواعيد التكرس الرهباني؛ وبإسكيمه الرهباني الملائكي. وها هو اليوم يوزع خيرات السماء ونعمها على كل المحتاجين ومنهم أغنياء هذا العالم.
2. هؤلاء الرهبان لم يقولوا "لا" للمسؤولية إنما للزعامات الفارغة والكراسي التي تأسر الانسان وتحتجزه. فقالوا نعم لله ولله فقط على مثال مريم لتكمل إرادة الربّ فيهم فيكونوا خدام الله والقريب. يحملون الحقيقة فيصيرون مشعلها الضاوي في كل زمان ومكان. قالوا نعم نحن نريد أن نكون خدّامًا على مثالك أنت الخادم الأول الذي ما جاء ليعمل بإرادته بل بإرادة الآب الذي أرسله. فحجّموا الكراسي الواهية وتحرّروا منها ليكبروا بالخدمة والمسؤولية وتتميم مشيئة الله. وها هم يُضحون آباء روحيين للأجيال عبر الأجيال. أو ليس نذر الطاعة الذي ينذره الرهبان هو هذا الاستسلام اليومي بين أيدي الربّ والطاعة لإرادته على مثال طاعة المعلمّ الأول يسوع المسيح لأبيه السماوي؟ وها قديسنا شربل يحقق وعد الربّ يسوع "من وضع نفسه يُرفع ومن رفع نفسه ينخفض" )لوقا 14/ 11). هو الذي اختفى بطاعته دون أن تغيب رائحة قداسته لا في حياته ولا في مماته الى اليوم. وها هو منارة مشتعلة على قمة جبل عنايا ليضيء للكثيرين الذين يسيرون في الظلام.
3. هؤلاء الرهبان ما قالوا "لا" للحبّ إنما لشهوة الجسد التي تسيطر على الإنسان لتعيّشه في الجشع والطمع والدنس. ليقولوا نعم للحبّ حتى بذل الذات في سبيل المعلّم والقريب. حبّ يعطي الحياة لأن مصدره انصراف إلى الاتحاد بربّ الحياة يسوع المسيح. فلم يدَعوا شيئا يفصلهم عن محبّته ويلهيهم عن خدمته والشهادة له. فكان حبّهم أكبر من شهوة عابرة تزول إنما حبّ صادق شفاف يبقى للإنسان ولله. أو ليس نذر العفة سوى تلك الطاقة الجبارة التي تحبّ لتحبّ كلّ الناس على مثال تلك المحبّة يسوع المسيح فتعفّ عن محبّةضيقة لتكون حبّ شامل. وها شربل يسكر دوما، لا من خمرة الكرمة التي زرعها، ولا من دخان الأرض بل من هذا الحضور الإلهي في سرّ القربان الذي قضى الليالي يناجيه ويتغزل فيه. لم يشبع من أكل الأرض، ولا رُزَق بأولاد ولكنه أحبّ كل بني البشر ورفعهم كلّ يوم في صلاته وقداسه. ليصير بالتالي أبًا لكثرين ونحن منهم.
هؤلاء جماعة ما خافوا ولا هربوا، بل تجرّؤا أن يقفوا في وجه الباطل ويقولوا كلمتهم. "لا" للميوعة وللرخاوة. "لا" للمساومة والشراكة في عبادة وحبّ الله. ليقولوا " نعم " لجذرية الحبّ والقداسة التي تجلت في حياتهم بعيش جذرية الإنجيل.
هؤلاء ثوار من الدرجة الأولى ولكن على مثال معلمهم. لم يصرخو ولم يصيحوا ولم يتطاولوا على أحد ولم يضربوا أيّا من الناس وما أحرقوا دواليب ليسدّوا الطريق على أحد. إنما عرفوا الحق فعاشوه. اختبروا الحبّ فجسّدوه. اكتشفوا من هوَ الملك فعرفو أن يستثمروا الوقت والحياة في خدمته فأحرقوا له البخور لمجده وإكرامه وأحرقوا معه ذنوبهم وخطاياهم ليبقوا متحدين متصالحين معه فيقدّسوا اسمه. فتجلّى فيهم كمال الحبّ ووداعة القداسة فصاروا بمثل حياتهم مرآة تعكس وجه الله، وشهادة فحص ضمير لكلّ الناس.
نعم، صاروا أيقونة حيّة تخبر وتبشر، تشهد وتستشهد وفي أغلب الأحيان تحكي دون أن تحكي. كم كلمنا وعلمنا شربل دون أن يتكلم. كم وعظ في حياته وفي مماته وما زال يعظنا إلى اليوم دون أن يتكلم. ما أجمل هذه الأيقونة التي تهدي من دون حتى أن تحكي.
نعم هذا ما عاشه وعلمه شربل مع الآباء الرهبان القديسين من دون أن يكثروا في الكلام. ومن قلب الصمت والتأمل والصلاة كانت ولا تزال تصل إلينا أجمل العبر والأمثولات. ونحن اليوم في كثرة العلم والكلام هل نحمل لبعضنا ولوالجزء اليسير مما حملوه لنا.
وهل برأيكم أنه من باب الصدفة وفي عالمنا اليوم، عالم الصخب والضجيج، عالم الرخاوة والميوعة، عالم الفساد والسلطة وعالم الشهوة والجنس بلا منازع، في زمن التيارات والبدع، أن يطلب إلينا شربل أن نكون " رهبان في قلب العالم "؟
نعم إخوتي، في زمن قد تخلى الكثير عن ال "لا" الرهبانية لينغمسوا بما هو لهذا العالم، يدعونا أبينا القديس شربل اليوم أن نحمل نحن مناجلنا للحصاد. ولكن لكي نحصد ثمار القداسة علينا أن نزرع بالحبّ. علينا أن نزرع في عيالنا وفي بيوتنا وجماعتنا حب الله فوق كل شيء. علينا ان نزرع أيضا حبّ الصلاة لنكون نحن البخور الذي يطيّب هذا العالم. علينا أن نزرع السلام والتفاهم فنوطد الحوار والشراكة بين أبنائنا وأهلنا فنعيش في سكينة وهدوء. علينا أن نكون مثال الخدمة المتواضعة ونسمة الوداعة بين الناس. علينا أن نحمل إلى عالمنا تراث القداسة الذي عاشه هؤلاء الرهبان القديسين بشهادة عيش تجسّد تعاليم الإنجيل والفضائل المسيحية التي تغيب يومًا فيومًا، فلا ننجرف نحن بحب مال يلهينا عن أن نرى الله في أخينا الإنسان؛ ولا ندوس على شراكة أخوية ومحبّة إنسانية لأعتلاء مركز أو كرسي. وكم علينا مسؤولية أن نحياهذه المحبة المجانية البعيدة عن المصالح والغايات. فنعيش كمال الحبّ والقداسة في بساطة حياة، بعيدة عن البذخ والتعلق بالمال. في بعد كامل عن الكبرياء من أجل تفانٍ في الخدمة المسؤولية. بعيدين عن كل انجذاب يجرفنا الى هاوية الظلمة والموت فتفنى أرواحنا لا سمح الله مع فناء أجسادنا لأننا لم نعش إلاّ لها.
شربل راهب حبيس، تقدّس في محبسة عنايا. وأنا راهب، حبيس عائلتي أو مجتمعي عليّ أن أتقدّس في محبسة بيتي أو رعيتي. ما أجمل أن يكون حيث أعيش فرصة دائمة لألتقي بالله عبر الأشخاص الذين أعيش معهم وأشهد لمحبته في وسطهم. ما أجمل أن أقدّس الزمان والمكان الذي أعيش فيه ليكون واحة فسيحة لحضور الربّ من خلال حضوري.
ساعدنا يا ربّ أن نكون رهبانا حقيقيين نعرف أن نقول "لا" لما يفصلنا عنك. و"نعم" دائمة لما يوحّدنا فيك وببعضنا.
آمين .