الألم في مفهومنا المسيحيّ
الجمعة 31 أيار 2002
عيلة مار شربل – عنايا
الأب مارون مبارك – المرسل اللبنانيّ
باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين.
قال أحد الكرادلة، Veuillotرئيس أسافقة باريس: "نحن نعلم أن نقول أجمل الكلام على موضوع الألم. أنا بنفسي قلت عنه أشياء كثيرة بكل حرارة. قولوا للكهنة ألا يحكوا عنه شيئاً، لأنّنا نجهل ما هوَ، أنا نفسي بكيت حين تألّمت".
نعم، يعتقد الكثيرون أن الكاثوليك يحبّون الألم ويلتزمون به، والكاثوليك هم أنفسهم يُعطون الاعتبار الكبير للألم: إذ يصوّرون آلام المسيح بوضوح، وهوَ المصلوب المجروح والمعذّب، كما أنّهم في صلواتهم يعدّدون صفات الألم مثل "وادي الدّموع"، ليدّلوا على عذابات الأرض، بالإضافة إلى الحديثعن"الإماتات"، للتكفير والتعويض عن الخطأ، أو للإستعداد حتى نقوم بقفزة نوعيّة في الحياة. لكن موقف الكنيسة الكاثوليكيّة هوَ معاكس لهذا النوع من الماسوشيّة، إنّها تدعو إلى محاربة ومصارعة الألم: إلاّ أنّها تقبل بالألم عندما يكون محتّماً، وتحاول أن تعطيه معنى. يسوع نفسه رفض الألم وحاول التخلّص منه، لكن عندما فهم أنّه لا بدّ منه، سلّم الأمر لأبيه في السماء وتمّمَ إرادته، قَبِلَ يسوع الألم بفعل ثقة كاملة بأبيه. هكذا فإنّ كلّ مسيحيّ يسعى إلى الاقتداء بيسوع في هذه "النَعَم" التي أطلقها نحو أبيه وقبوله مشروع الخلاص المكلّف؛ مؤمناً بما قاله يسوع في التطويبات ووعدَ به أن "طوبى للحزانى فسوف يعزَّون" (متى 5/5). بمعنى آخر، يؤمن المسيحيّ أنّه بقبوله للألم يستجيب الله له بأن يعطي، بواسطته ويعطيه هوَ أيضاً ولكلّ البشريّة، حياة يسوع القائم من الموت؛ أي يصل إلى السعادة الأبديّة ويزرعها في عالمه.
هكذا نفهم كما قالت "سيمونّ وايل Simone Weil،" أنّ عظمة الإيمان المسيحيّ الكبرى تقوم ليس في أنّه يفتّش عن بلسم فائق الطبيعة للتخلّص من الألم، إنّما تكمن عظمته في أنّه يعيش الألم بطريقة فائقة الطبيعة".
1- الألم والمرض:
كتب قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في عيد سيّدة لورد11/2/1984، رسالة بعنوان "الألمالخلاصيّ" “Salvifricidoloris”، وهو الذي كان تعرّضَ لحادث اغتيال في 13/5/1982؛ وضمنها موضوع "المعنى المسيحيّ للألم الإنسانيّ". وفي العدد28 من هذه الرسالة استشهَدَ بقصّة السامريّ الصالح معتبراً أن هذا المشهد من الإنجيل هو "إنجيل الألم". يدلّنا على نوعيّة تصرّفنا تجاه المتألّمين. يُمنع على المسيحيّ أن يمرّ جانب المتألّم دون اكتراث، لا بل أنّه مدعوّ للتوقّف وللتنبّه إليه. فالسامريّ الصالح يمثّل كلّ شخص يتوقّف عند الألم الذي يعاني منه الآخر. والتوقّف هنا لا يعني الحشريّة بل الجهوزيّة، يعني حضور، وضع الذات بالتصرّف من القلب إلى درجة التأثّر فالتحرّك تجاه المتألّم. السامريّ الصالح يمثّل كلّ شخص يشعر مع المتألّم. يسوع يطلب منّا أن نربّي فينا هذا الإحساس مع الآخر حتى نوثّر في تصرّفنا تجاهه، لأنّ هذا الشعور مع الغير في ألمه هوَ صورة تجسّد الحب نحوَه، والتضامن معه.
لكنّ السامريّ الصالح لم يكتَفِ فقط بالحس والشعور مع المريض، بل اندفع إلى خدمته وإعانته بافعال كثيرة. فالسامريّ الصالح هوَ كلّ إنسان يقوم باسعاف المتألّم هكذا فإنّه يعطي من قلبه ومن خيوره فلا يوفّر السبل لذلك. إذاً انّه يعطي ذاته بكلّ بساطة. هنا نلمس موضوعاً هاماً في المفهوم الإنسانيّ المسيحيّ أي المفهوم الانتروبولوجي المسيحي ألا وهوَ "أنّ الإنسان يكتشف ذاته كليّاً عندما يعطي ذاته مجاناً. فالسامريّ الصالح هوَ كلّ إنسان قادر أن يعطي ذاته مجاناً بهذا الشكل".
لقد أوضحَ قداسة البابا هذه "الشركة الحسيّة والمعنويّة" بالألم مستنداً إلى مفهوم مسيحيّ للألم. طرح هذا الموضوع الصعب لأنّه ليس سهلاً التوغّل فيه، والناس كلّها توجّه السؤال إلى الربّ، لأنّه الوحيد القدير بالنسبة إليهم على الجواب. وعندما لا يلقَون الأجوبة المُرضية لهم، يتّهمون الله ويرفضونه. أمّا المسيحيّ المؤمن، فإنّه أمام الألم يقف متأمّلاً بالصليب ويسوع المصلوب؛ فإنّه يلمس أنّه لم يعد لوحده يواجه الألم بل أن الربّ المعلّق على الصليب يشاركه ألمه بكل حبّ. ويفهم المسيحيّ المؤمن أن الربّ يسوع من على الصليب، يقدّم حياته، لقد حوّلَ الألم الناتج عن الظلم وعن الإرهاب الممارس عليه إليه عطيّه حبّ وتقدمة خلاص؛ وكلّ هذا بفعل الحبّ الكبير الذي يحمله للآب ولنا نحن اخوته البشر.
وعندما يكمّل المؤمن المسيحيّ تأملّه بالصليب يفهم ايضاً أن يسوع يتابع تقدمة ذاته بالقيامة، وأنّ كل مسيحيّ مؤمن مدعو إلى الشركة في هذه العطيّة المتواصلة، وبالأخص في ساعات الألم؛ بمعنى آخر يُشرك المسيحيّ المتألّم ألمه مع آلام يسوع التي يرفعها إلى الآب. هكذا يتابع المتألّم رسالة يسوع المتألم؛ لأنّ الفداء مفتوح دائماً أمام كلّ حبّ يريد أن يُتَرجم بالألم الإنسانيّ.
إذا أردنا الوضوح أكثر، كلّ إنسان متألّم يقدّم صراعه للألم والألم معاً بالاشتراك مع تقدمة حبّ يسوع، يصبح معاوناً في خلاص البشريّة. وهذا ما يقوله بولس مؤكّداً: "يسرّني الآن ما أعاني لأجلكم فأتمّم في جسدي ما نَقصَ من شدائد المسيح في سبيل جسده الذي هوَ الكنيسة". )قول1/24).
فمَن يتألّم لا يعود في قلب الكنيسة إذا ثقلاً عليها غير نافع، بل أنّه عضوٌ في جسم، لهُ دوره، ودوره أن يحمل الألم؛ إنّه صانع خير لأخوته بآلامه وإنّه مساعد في الخلاص ومعاون ليسوع في الفداء.
)الخوري سيمون الزند قال مختبراً هذا النوع من الشركة في الألم، يوم زارنا في دير الكريم للاحتفال بالذبيحة الإلهيّة في عيد ميلاده وعيد ميلاد الأب بطرس شلهوب المرسل اللبنانيّ، "لا أريدكم، "مخاطباً الحضور وهم من اقرب المقرّبين إليه والمحبّبين له، "أن تتوقفوا عن الحياة لأنّي مريض واتألّم، أريد أن نعيش الشراكة وهذا يعني: عندما تأكلون كلوا وكلوا جيّداً عنّي وعنكم لأنّني أنا افقد الشهيّة بسبب مرضي؛ عندما تفرحون أفرحوا جيّداً واسهروا مع بعضكم البعض وذلك عنّي وعنكم لأنّني أنا سأكون في فراشي أنام تحت وطأة الأدوية؛ وعندما لا تريدون أن تتألّموا فأنا سأتألّم عنّي وعنكم؛ هكذا نحن نحمل بعضنا البعض في شركة المحبّة الأخويّة").
2- المرض والألم يشكّلان كتاباً جديداً نقرأه في حياتنا:
المرض له معنى في كلّ لحظة. فكلّ تراجع أو انخفاض في الحالة المسيريّة يوّلد في الإنسان اشعاعاً روحيّاً؛ فبقدر ما الجسد يضعف تنطلق النفس مرتفعة. لذلك فكل إنسان مريض، كائناً مَن كان، مع مرضه وألمه لم يعد إنساناً عاديّاً أو أي إنسان. لذلك أنّنا مدعوّين إلى قراءاة كتاب المرض والألم في الحياة؛ إنّنا مدعووّن إلى أن نتلّقى الألم والمرض كما نتلقّى رسالة، وكلّ رسالة موجّهة إلينا توضح لنا حقائق عدّة وهيَ:
1- إنّ المرض هوَ ضعف يبرهن قوّتنا الحقيقيّة.
2- إنّه مطرقة يستخدمهُ المرء في تشذيب طبعه.
3- إنّه وسيلة بها نغيّر مقياس حياتنا الأنانية والاعتداد بالذات حتى نبدأ مسيرة واقعيّة جديدة على الأرض.
4- إنّه مفترق طرق لكي نتوقّف عنده ونُمعِن النظر ونقرّر أي جهة نعتمد في مسيرتنا الجديدة.
5- إنّه موقف نتوقف فيه لكي نوزن قيم الأشياء وقياسات الناس.
6- إنّه خلوة روحيّة نصلّي فيها مزمور الرحمة "إرحمني يا الله" لنكفّر عن خطايانا ولكي نعلي طلبات الصبر في عيشنا الجديد.
7- إنّه حِمل نرزح تحته، فبقدر ما نحمله وننصاع له نصبح أسياداً في تقرير مصيرنا.
8- إنّه إيقاع غريب، RythmeMystérieux، يساعدنا على الوعي لفهم سمفونيّة العالم الشاملة وانسجامها، .HarmonieUniverselle
9- إنّه مذبح عليه نقدّم صلاتنا التي نقولها في "الأبانا"، "ليأتِ ملكوتك".
10- إنّه مسيرة تصبّ في الأخير في بحر الحياة. فإذا كان المرض طويلاً عضالاً، قصيراً أو موقّتاً، إنّه يُشبه السواقي والأنهار التي كلّها تصبّ في البحر، والبحر بالنهاية يعكس على سفح موجاته أنوار المغيب واشعاع السماء. لذلك لا بدّ للألم أن يكون عندها لهُ معنى.
3- معنى الألم والمرض بعد قراءة كتابه في حياتنا:
بعد قراءة كتاب المرض والألم نصل إلى ان نفهم معناه؛ وهذه بعض شذرات من معاني المرض والألم نتعرّف عليها من خلال ردّات فعل أنواع متفرّقة من الناس:
1. بالنسبة إلى الماديّ، الألم هوَ تجربة أو برهان لضعف الجسد ووهنه.
2. بالنسبة إلى المتأملّ، الألم هوَ دعوة للبحث ما وراء حياتنا الآتية، عن الحقيقة الثابته للقدر.
3. بالنسية إلى المتصوّف، الألم هوَ تنقية للنفس التي يسجنها الجسد فتتخلّص منه لتصير إلى الله في اللانهاية حيث موجود فتتحد به.
4. بالنسبة إلى المؤمن، الألم هوَ جرح بالقلب يتحوّل إلى رجاء مع المسيح، فيقول أحد الكتّاب الروحيين في "جرح القلب": "أعطِ قلبي أن يغنّي لكَ جراح رغباته، مخاوف الوداع وحنين البعد. قل لي ما هو ألمَك وأعطني شوكة منكَ، فاصنع منها لازمة لغنائي وتاجاً لرأسي... وحده مَن عانى الألم يمكنه الإعلان انّه يعرف ذاته بالعمق... فبدون الألم لسنا أحياء بالحبّ، وبدون الحبّ لسنا أقوياء في الألم... وحدهُ القلب الذي يحبّ والذي اختبر الألم هو غنيّ مثل البحر الواسع وواسع مثل العالم...".
أحبّ أن اختم بترجمة الشعور الذي اختبره الخوري سيمون من بعد ما راجع حياته كلّها، فأقول على لسانه:
"أنظر من حولك، لكن ليس بالعيون فقط، اسمع ما حولك ولكن ليس بالآذان، فتجد في كلّ مكان الألم، لكن أنظر واسمع بقلبك، فستفهم بسرعة، أنّه إذا كان الألم يعني فقط الألم، أن تعرف تتألّم يعني العمل".
لذلكَ كان همّه ما العمل من خلال كلّ هذه القصة.
آمين.