"الإتّباع ورسالة التبشير"
1- يتّجه موضوعنا نحوَ "رسالة التبشير" الذي يشكّل وجهاً قويّاً من وجوه الرسالة التي هيَ بدورها تشكّل حجرًا أساسًا في الحياة المسيحيّة. لا يوجد إتّباع للمسيح بدون رسالة، فالمثلّث ثابت بقواعدِه الثلاث: دعوة، تكرّس ورسالة. إنّه مثلّث مترابط جذريّاً لا يمكن تفريق عنصر من الثلاثة عن الباقين وإلاّ فقدنا الهيكليّة كلّها. من هنا نفهم أنّ الرسالة هيَ من جوهر الوجود المسيحيّ.
2- نقف عندَ "رسالة التبشير" بشكل خاص في لقائنا اليوم، لأنّنا نلتقي ضمن سلسلة مواضيع محدّدة تحت عنوان واحد "الإتّباع"، ونخصّصه بالتبشير نظراً لامتياز لقائنا في شهر حزيران بعيد الرسولين بطرس وبولس عمودَي الكنيسة اللذين حملا البشارة إلى الشعوب بدءًا من الشعب المُختار.
3- لقد تميّزَ تبشير الرسولين بطرس وبولس بعدّة خصائص نوردها لتعَلّمنا أن نرسم خطّ التبشير في حياتنا المسيحيّة اليوم.
الميزة الأولى: الإنطلاق نحوَ الناس، فور حلول الروح القدس في العليّة على الرسل، انطلقوا نحوَ الناس ليشهدوا ما خبروه مع يسوع وفهموه من رسالته الخاصّة نحوَ البشريّة. لقد حوى هذا الانطلاق ثلاثة مضامين رسوليّة:
محتوى الرسالة بحدّ ذاتها، إنّها البشرى التي حملوها وتحدّثوا عنها، هي، يسوع القائم والمنتصر، هوَ هوَ نفسه الذي عرفوه قبل الصلب، لا فرق بينه وبين يسوع التاريخي.
التحرّك في الرسالة من مكان إلى آخر بحثاً عن النفوس لإيقاظ الإيمان فيها وجذبها نحو يسوع. وهذا من ممَيّزات الرسالة الإرساليّة، التي فيها إرسال وتحرّك جغرافيّ.
كلّ العمل قَبِلَه الرسل من يسوع بالروح القدس؛ فيسوع أوكلهم أن يذهبوا ويتلمذوا كلّ الأمم ويعلّموهم ويعمّدوهم... إذاً اختار يسوع مَن أرادَهُم أن يعملوا ما عملوه وأرسلهم بتوكيل خاصّ، والرسالة تقدّم باسمه بالروح القدس.
هذه المضامين الثلاثة حدّدت وجهة الرسالة ومفهومها اللاهوتي في رسالة الكنيسة العامّة؛ وهذا ما تعيشه الكنيسة في رسالتها بالفعل اليوم.
الميزة الثانية: الحديث والكلام؛ بعدما انطلق الرسل إلى الناس حدّثوهم عن يسوع ونقلوا إليهم الأخبار عنه كقائم من الموت مع التركيز على شخصهِ أنّه هو ابن الله، بعدما اختبروا قيامته وعرفوه أنّه هوَ هوَ مَن كانَ معهم على دروب أورشليم وعلّمهم واجترح العجائب أمامَهم... فالكلام بالرسالة هو أساس التبشير لنقل الخبر السعيد، إنّه شهادة حياتهم عن يسوع معهم.
الميزة الثالثة: إدخال الناس في منطق يسوع، بمعنى بشّروهُم بالخبر السعيد ليحصلوا من خلاله على الخلاص الذي صنعهُ يسوع وذلك من خلال دخولهم في هذا المشروع الخلاصي، اعتناق طرقه من خلال التوبة أو المعموديّة. فكلّما كان بطرس يلقي كلامه على مسامعهم كانت قلوبهم تتفطّر فيسألونه ما العمل، وكان يجيبهم أن "توبوا واعتمدوا" (رسل 2/ 37-38). هكذا كان الناس يدخلون في منطق يسوع الخلاصيّ.
4- لقد اقتبسَت الكنيسة عن الرسولين بطرس وبولس هذا العمل كلّه وتأمّلت فيه وعملت عليه طوال الإجيال لتؤكّد صحّة رسالتها وتؤَدّيها على أكمل وجه. وتوالت عبرَ السنين الأعمال الرسوليّة والتفكير حول الرسالة الكنسيّة التي صدر بصددها عدّة تعاليم رسميّة عن الكرسي الرسولي بذاته. يدعو قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في إحدى رسائله العامّة وعنوانها "رسالة الفادي"، الكنيسة "إلى تجديد التزامها الرسولي... فالرسالة، بالواقع، تجدّد الكنيسة وتقوّي الإيمان والهويّة المسيحيّة، وتُعطي مزيداً من الحماس والدوافع الجديدة. يقوى الإيمان عندما نعطيه. فتبشير الشعوب بالإنجيل يجد إلهاماً ودعماً في الإلتزام بالرسالة الشاملة (رسالة الفادي، عدد 2).
5- فهمت الكنيسة أنّ محتوى الرسالة ومضمونها الأساسي أن "يسوع المسيح هوَ المخلّص الوحيد"، لذلك عرفت أنّ مهمّتها الأساسيّة "هيَ أن توجّه عقل الإنسان وتهدي البشر أجمعين وخبرتهم نحو سرّ المسيح" (فادي الإنسان، عدد 10).
6- الكنيسة هي المستفيدة الأولى من الخلاص. لقد امتلكها يسوع المسيح بدمه، لكي تسهمَ معهُ في عملِ الخلاص الشامل. هذا ما يؤكّد عليه المجمع الفاتيكاني الثاني في دستوره العقائدي "نور الأمم" في العدد 13، حيث يركّز على اختيار الربّ الكنيسة لكي تكون مساهمه في خلاص الإنسان مع "هبة الروح"، فيقول: "إنّ هذا الشعب المسيحاني "قد أقامه المسيح شركة حياة ومحبّة وحقّ، وهو بين يديه أداة خلاص لكلّ البشر؛ وأرسله نوراً للعالم وملحاً للأرض". لذلك نستطيع القول مع بولس الرسول: "إنّى لا أستحي بالبشارة، فيه قدرة الله لخلاص كل مؤمن" (روم 1/ 16).
7- أمّا الروح القدس فلهُ الدور الأساسيّ في البشارة الكنسيّة. لقد حلّ على الرسل في العلّيّة بشكل ألسنة من نار يوم العنصرة وجعل منهم "شهودًا وأنبياء" (رسل 1/ 8)؛ كما وأمدّهم بالجرأة الواثقة، ساعدتهُم بقوة إلى نقل اختبارهم مع يسوع للآخرين، وإلى الشهادة للرجاء الذي قبلوه والذي ينقّح حياتهم كلّها. لقد عمل الروح القدس في الكنيسة الأولى بوضوح إذ اقتادَ رسالتها ودفعَ بها لكي تمتدّ داخل أورشليم وخارجها نحوَ الشعوب والأمم.
من المميّز بالروح القدس أنّه يجعل من الكنيسة "رسوليّة"، بحيث يجمع شمل المؤمنين ليؤلّفوا "جماعة" تلتئم لسماع "البشارة" ولعيش الشركة، للصلاة، والاعتذاء من الافخارستيا؛ إنّها الشركة الأخوّية، Kaimonia. هكذا حملت هذه الجماعات بشهادة حياتها "البشرى السارّة"، إذ تميّزت: بوحدة القلب ووحدة النفس، بالشركة على كل الأصعدة (الروحي، الماديّ والإنسانيّ)؛ وبتوزيع الخيور بعضهم على بعض كيلا يبقى هناك معوز بينهم؛ وبعيش الفرح وبساطة القلب؛ بالنشاط وبالانفتاح وبالعمل الرسولي. هكذا عاشت الكنيسة رسالتها بالشهادة والإشعاع قبل العمل والنشاط. وفي قلب كل تحرّك الكنيسة كان الروح القدس حاضراً وفاعلاً، في كلّ عضو من أعضائها وبطريقة خاصّة.
8- أوجه الرسالة: متعَدّدة وفيها يتجسّد التبشير بيسوع المسيح من خلال الكلمة ومن خلال العمل والخدمة، يحدّدها قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني في رسالته التي ذكرنا آنفاً "رسالة الفادي" في الفصل الخامس:
- التبشير بالإنجيل هو الشهادة: إنّه الوجه الأول، أي شهادة الحياة المسيحية التي لا غنى عنها. أول شهادة هي "حياة المرسل عينها، وحياة العائلة المسيحيّة والجماعة الكنسيّة والحياة التي تظهر وجهاً جديداً للسلوك". تقوم هذه الشهادة على "العيش بكل بساطة تشبّهاً بيسوع واقتداء به". إنّها مجّانية، تدلّ على وجود ما يعارض الأنانيّة المتملّكة عند الإنسان، ممّا يجعل التساؤلات تطرح ذاتها، وعندما يبدأ الناس بالتوَجّه نحوَ الله ونحوَ الإنجيل.
- التبشير هوَ إعلان يسوع المسيح المخلّص: يقول البابا بولس السادس في إرشاده الرسولي "واجب التبشير" أنّ الله فوّض الكنيسة الإعلان عنه كمخلّص، "إن التبشير بالإنجيل سيتضمّن أيضاً ودائماً...، إعلاناً واضحاً أنّ بيسوع المسيح... يهب الله الخلاص لكل إنسان، عطيّة من نعمة الله ورحمته".
- التبشير يهدف إلى التوَجّه للتوبة والعماد: إنّ إعلان كلمة الله يمهّد السبيل للتوبة المسيحيّة، أي للولاء الكامل والمخْلٍض بالإيمان، للمسيح ولإنجيله. فكان الرسل، بدافع من الروح القدس، يدعون الناس جميعاً إلى تغيير حياتهم، وإلى التوبة وقبول العماد (رسل 2/ 37-38).
- التبشير لتأسيس الكنائس المحليّة: إنشاء جماعات مسيحيّة لتكون "علامة حضور الله في العالم"؛ تزرع الكلمة حتى تنشأ جماعة، وهذه الجماعة في شهادة حياتها للكلمة تشهد للربّ.
- التبشير لخدمة المحبّة، حيث تكون المحبّة هي مصدر الرسالة ومقياسها: لا تقف رسالة الكنيسة فقط على إعلان الكلمة والبشارة، إنّما أيضاً تلتزم "خدمات المحبّة" لمتابعة أعمال يسوع الذي بدّلَ العالم. لقد تركّزَ العمل الرسولي على "خيار الفقراء" والدفاع عن حقوقهم.
- التبشير لخدمة الحوار: وهي خدمة "الإصغاء والاستماع". ليس التبشير فرضاً للإيمان المسيحي ولا هو حكم على الإنسان. تقوم الرسالة الحقيقيّة على بناء الحوار حول الحقيقة مع أشخاص ينتمون إلى أديان أخرى أو لا يؤمنون بدين. تبنى الرسالة في الحوار على أن تجعل الكنيسة نفسها في حالة سمع أو إصغاء لكي تصل إلى كشف أعمق للحقيقة.
- التبشير لتربية الضمائر: إتّجه عمل الكنيسة نحو تطوير الإنسان وتحريره من كلّ ضغط. لذلك تعمل الكنيسة في إيقاظ الشعوب التي بشّرَتْها بالإنجيل حتى تندفع نحو الرقي. فالمرسلون هو رواد التطوّر. تنادي الكنيسة الشعوب للتقدّم ليس من خلال "الامتلاك الأكثر للخيور" بل من خلال "إيقاظ الضمائر ليكونوا أصحاب كيان غني أكبر"، كيان صادق يساعد على حلّ المشاكل الاقتصادية والاجتماعيّة التي تواجه جماعاتها ومجتمعاتها.
- التبشير القوي بالإنجيل داخل الجماعات الملتزمة: هي الجماعات الأساسيّة التي تشتغل بالأصول المسيحيّة. إنّها مراكز تنشئة مسيحيّة، تتجمّع على المستوى العائلي أو في إطار محدود، للصلاة وقراءة الكتاب المقدّس والتعليم الديني، فتتناول القضايا الإنسانيّة والكنسيّة معاً في سبيل الالتزام المشترك. إنّها علامة حيويّة الكنيسة، ووسيلة تنشئة وتبشير بالإنجيل، ونقطة انطلاق جيّدة توّدي إلى مجتمع جديد يرتكز على "حضارة المحبّة".
وهذه الأخيرة تدل إلى حدّ ما إلى جماعتنا نحن التي تتميّز بعيش هذا التبشير من خلال:
1- الصلاة التي هي "صلاة الكنيسة"، بحسب الليتورجيا المارونيّة.
2- القراءة لحياتنا على ضوء كلمة الربّ.
3- لنكون رهباناً في قلب العالم، نشهد للربّ ونحمل إليه الناس من خلال شهادة حياة صادقة.
4- فنبني "حضارة المحبّة" التي ترتكز على أصول الإنجيل وبشارته السارة.
آمين.
تعليم أعطي في عيلة مار شربل - الأربعاء 4 حزيران 2008
مع الأب مارون مبارك (مرسل لبناني)