العيلة والافخارستيا - الخوري شوقي كرم
مقدمة: ضمن سلسلة التأملات في أهميّة الإفخارستيا لحياتنا في المسيح، نطرح اليوم السؤال حول أهميتها في حياتنا الزوجية والعيلية. هذا السؤال يتشعّب ليطال أهميّة الإفخارستيا بالنسبة للعهد الزوجي كما ولتجدّد الحبّ الزوجي، لوحدة الزوجين والعيلة كما ولنوعيّة الحياة العيليّة بين أفراد العيلة نفسها، لثبات العيلة المسيحيّة كما ولدعوتها الرسوليّة.
- هل من رباط بين الزواج والإفخارستيا؟
- تجذّر العهد الزواجي في الإفخارستيا.
- العيلة ككنيسة مصغّرة والإفخارستيا.
- راحة يوم الربّ والمشاركة في عمل الله الخالق.
- الدعوة إلى وليمة العرس.
1- هل من رباط بين الزواج والإفخارستيا؟
لنجيب على هذا السؤال ونفهم ونقدّر عمق ارتباط الزواج والعيلة بالإفخارستيا، لا بدّ أن نذكّر بما هو الزواج المسيحي والعيلة بحسب تدبير الله الخلاصي.
فحين نتكلّم عن الزواج والعيلة نتكلّم عن دعوة خاصة من الله للإنسان – الذي سبق فأجاب على دعوته ليكون من خاصّته، فاختار بالإيمان أن يكون الله الكلّ في الكلّ في حياته (الخيار الأساسي) – ليجسّد خياره الأساسي ضمن خيار حياة يتناغم مع معطيات كيانه الداخلي ويسمح له بتحقيق دعوته الأساسية للحب والقداسة عن طريق الشركة في حياة الله بالذات، ليس لوحده بل بالتعاون مع آخر فريد، يرتبط به بالعهد الزواجي ضمن شركة حبّ وحياة دائمة.
وحين نتكلّم عن الإفخارستيا نتكلّم عن احتفال مقدّس، هو رمز للعهد الجديد الذي ختمه الربّ بتقدمة ذاته على الصليب حبّاً وفداء لنا وتجسيد له؛ نتكلّم عن هذا العهد الأبدي الذي خطب به الربّ البشريّة ونقّاها وطهّرها وزفّها إليه عروساً لا شائبة فيها ولا غضن، ليفتديها ويشركها في حياته وتحقق دعوتها للقداسة. وهذا ما يجعل من الإفخارستيا ينبوعاً للحبّ الإلهي وللقداسة بالنسبة للمؤمن المسيحي.
فإذا كان الزواج هو دعوة للحب والقداسة، فهل يمكن للإنسان أن يحقّق هذه الدعوة دون نِعَم الإفخارستيا؟ إذا كان للنهر أو الساقية القدرة على الاستمرار بدون الرباط بالنبع، كذلك يمكن لشركة الزواج والعيلة أن تستمر دون الإستيقاء من معيل الإفخارستيا؟
2- تجذّر العهد الزواجي في الإفخارستيا.
في الحضور الإفخارستي للربّ، يتجلّى جليّاً سرّ أمانة الله التي لا تسبر لتدبيره وعمله الخلاصي، كما ولسرّ أمانة المسيح إن لالتزامه بفدائنا، وإن لوعده بأن يبقى معنا إلى الأبد (متى 28/ 20).
من جهتها، تعبّر الكنيسة العروس عن أمانتها لعروسها، الذي يبذل جسده من أجلها، بأن تبقى عبر الزمن، بمعونة الروح القدس، أمينة على الاحتفال بالإفخارستيا كذكرى لفصحه حتى مجيئه، إحتفالاً يسمح لها بالدخول في هذا الفصح وتحقيق وحدتها بالله وببعضها البعض.
في قبول سرّ الزواج، يرضى العروسان المسيحيّان الدخول في عهد الحبّ والأمانة هذا الذي يربط المسيح بالكنيسة، إيماناً منها بفيض النعم التي ينالانها لتنقية وتطهير وتقديس حبّهما ليصير قادراً على أن يكون على مثال حبّ المسيح والكنيسة. وبالتالي في هذا الاشتراك تصبح دعوتهما الحقيقيّة أن يكونا أيقونة حيّة لهذا الحبّ، يتحقّق فيها هذا الحبّ ويشعّ إلى الخارج.
فإذا كانت الإفخارستيا كما قلنا سابقاً هي المكان الذي يتحقّق فيه هذا الحبّ والأمانة اللذان يربطان المسيح والكنيسة، فهل يمكن للحب الزوجي المسيحي أن يتحقّق بحسب دعوته دون الشركة في هذا الحبّ والأمانة!؟ ألا يُعطي الإشتراك الفعلي في وليمة القداس لهذين الزوجين المسيحيّين أن يتّحدا بحب المسيح والكنيسة ويغَذّيا حبّهما بكل ما يعمر به هذا الحبّ من قوّة وحياة وتنقية وتطهير وتقديس؟! يقول الربّ: "وكما أنّ الغصن لا يُثمر من ذاته إلاّ إذا كان في الكرمة، فكذلك أنتم: لا تُثمرون إلاَ إذا ثبتّم فيَ. أنا الكرمة وأنتم الأغصان، من يثبت فيَّ وأنا فيه يُثمر كثيراً. أمّا بدوني فلا تقدرون على شيء (يوحنا 15/ 3-5). كيف للزوجان أن يحييا بحياة المسيح إن لم يثبتا فيه، وكيف لهما أن يثبتا إن لم يبقيا كالغصن متّحدان بالكرمة ليأخذا منها حياة المسيح بالذات؟! لهذا يقول البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته للعيل، "في وظائف العيلة المسيحيّة في عالم اليوم"، عدد 57: "في ذبيحة العهد الجديد الأبدي هذه، يجد الأزواج المسيحيّون الأصل الذي يتفرّع منه عهدهم الزواجي ويتكيّف به باطنيّاً ويحيا باستمرار".
3- العيلة ككنيسة مصغّرة والإفخارستيا.
الزوجان المسيحيّان، بأمانة لدعوتهما المسيحيّة، هما مدعوّان منذ بداية زواجهما لتأسيس جماعة إيمان حقيقيّة، جماعة حياة أسرارية ورسولية، جماعة مشاركة روحيّة تتخطّى كل الأبعاد الأخرى للحياة اليوميّة، ليعطيا بعضهما الإمكانية والعادة على المشاركة دون تردّد ودون مرارة، وعلى التعاون المشترك بحبّ واحد لله. هذا ما تسمّيه الكنيسة بالدعوة لتأسيس كنيسة بيتيّة، أي جماعة حاضر الله فيها وهي متّحدة به، منه تعيش وبه تستمرّ وله تشهد.
وحده، تحقيق هذه الدعوة، يعطي جميع أفراد العائلة أن يجدوا معنى وجودهم وسبب نموّهم بالإنسانية الحقّة، ومصدر فرحهم وسعادتهم الحق، وأساس وحدتهم وقوّة إستمرارية شركتهم. لهذا فأن حقائق الحياة الزوجية نفسها هي التي تذكّرهم دائماً أن هذه الوحدة الكاملة لا يمكن أن تتحقّق على مستوى سطحي، أي على مستوى المقتنى واللباس والأكل... بل على مستوى أعمق بكثير.
لذلك، في اشتراك الزوجان والأولاد في سرّ الإفخارستيا، الذي هوَ سرّ وحدة الكنيسة بالمسيح، أي سرّ اتّحاد أعضاء الجسد الواحد بالرأس الذي هوَ المسيح، يشتركوا جميعاً في شركة الحبّ التي توحّد المسيح والكنيسة، فتتحقّق وحدتهم بشكل فريد ومميّز. وتتجلّى هذه الوحدة على صعيدين: الحياة العمليّة ووحدة المصير. على صعيد الحياة العمليّة، بسبب التحوّل الذي تحقّقه المناولة في مَن يتناول جسد المسيح، إذ يتحوّل الإنسان للمسيح وليس العكس، فإن أفراد العيلة المشتركين بهذا الجسد يتّحدون بتحوّل كل كيانهم بالمسيح، الذي يصبح هو الحيّ فيهم. وهذا يعني عمليّاً تصبح وحدتهم في وحدة فكرهم وعاطفتهم وضميرهم ومسلكيتهم بفكر وعاطفة وضمير ومسلكية المسيح.
أمّا من ناحية المصير، فرباطهم بجسد المسيح يكرّس تمايزهم وحاجاتهم لبعضهم البعض وللآخرين، إذ يثبتون ما نالوه بالمعموديّة، الإتّحاد بباقي الأعضاء والعمل على استثمار المواهب والعطايا لأجل نموّ الجسد الواحد. فكل عضو يعمل لخير الجسد، وكل ما يُصيب عضواً يصيب آخر.
وبما أنّ الإفخارستيا لا تنتهي عند نهاية الإحتفال الليتورجي بل تمتدّ لتشمل حياة الإنسان في دقائقها اليوميّة، فتنعكس على حياته محبّة للآخرين وتضامناً معهم من أجل تحقيق عالم أكثر عدل وأخوّة وإنسانية. فالجماعة العيليّة بوصفها الخليّة الأولى للمجتمع تستطيع بذلك أن تستمدّ من المسيح ما يمكّنها لتحقيق هذه الدعوة فعليّاً.
في هذا المجال يقول البابا يوحنا بولس الثاني: "في المحبّة النابعة من الإفخارستيا تجد العيلة المسيحيّة أساسها وما يشبه روح "اتّحادها" و"رسالتها": فخبز الإفخارستيا يجعل من مختلف أعضاء الجماعة العيليّة جسداً واحداً تتجلّى فيه وحدة الكنيسة والاشتراك الأوسع فيها. ويصبح بالتالي تناول الجسد المسلَّم والدمّ المهراق ينبوعاً لا ينضب لنشاط العيلة المسيحيّة الإرسالي والرسولي".
4- راحة يوم الربّ والمشاركة في عمل الله الخالق.
بالعودة إلى مشروع الله الخلاصي في الخلق. نجد الربّ يستريح في اليوم السابع من عمله الذي عمله خالقاً، ويبارك ويقدّس هذا اليوم ويأمر بأن يكون مقدّساً للربّ.
فالعيلة التي تعمل بكل أفرادها، أعمالاً مختلفة، هي تشارك بطريقة أو بأخرى في عمل الله الخالق. فإن تابع أفرادها العمل طوال الأسبوع، وتنكّروا لأمانتهم في حفظ يوم الربّ، فقد يصبح عملها خلقاً منفصلاً عن الله، ويقودهم في خطر تأليه الذات كمصدر للقوت والحياة.
في حين، العيلة التي تشبّها بالله، تتوقّف عن عملها الذي تعمله كخالقة، وفي هذا تحقّق أولى أبعاد دعوتها ألا وهي أن تكون على صورة الله، وتأتي لترتاح في الله، ستجد راحتها الحقيقيّة فيه وهذه الراحة هي أكثر من راحة من العمل، هي راحة إلهيّة حقيقيّة، يأخذ فيها الله بابنه يسوع على عاتقه ما عملته هذه العائلة طوال اسبوع، فيحرّر أفرادها من نتائج كل عمل سيّء، ويبارك ويقدّس ثمر كل عمل مبارك، فينطلق أفرادها أحرار ومباركين، قادرين بالنعمة التي نالوها أن يعملوا عملاً يبنيهم ويبني العالم ويمجّد الله.
5- الدعوة إلى وليمة العرس (لوقا 14/ 15-24 ومتى 22/ 1-14)
بالعودة إلى مثل وليمة عرس ابن الملك، لا بد أن نجد بعداً آخراً مهمّاً لتلبية هذه الدعوة من قبل افراد العيلة المسيحيّة. إن دعيَ أفراد العيلة المسيحيّة إلى وليمة عرس ابن الملك صاروا من المدعوّين، ولكن ليس من المختارين. والأمر ليس متعلّق فقط بعدم قبول الدعوة وتلبيتها بل أيضاً في كيفيّة تلبيتها.
لنتّفق على هذا، إذا كانت المشاركة في هذه الوليمة هي الوسيلة المعروضة على العيلة من الآب الملك لتشارك في عرس ابنه وتصبح شريكته في الحب الذي يربطه بالكنيسة، فهل يمكن لأفرادها أن يبتدعوا طرق أخرى لتحقيق هذه الشركة؟!. فما معنى كل الإدّعاءات التي نطلقها يمنه ويسرة، لنبرّر أنفسنا لعدم تلبيتنا الدعوة والمجيء إلى الوليمة، مؤكّدين بأنّه يمكننا اللقاء بالله والدخول بشركة معه بعيداً عن هذه الوليمة!!. أنحن، أأنا مَن يفرض طرقه ومشاريعه على الله، أم أنا خادم أضع نفسي في خدمه ما يريده الله؟!.
المهمّ كثيراً أن نتوقّف على أعذار من كانوا يودّون المجيء ولكنّهم لسبب أو آخر اعتذروا، ولنحاول أن نفهم عنف جواب الآب الملك: "لن يذوق عشائي أحدٌ من الرجال المدعوّين أولئك" (لوقا 14: 24). حجّة الأول حقله والآخر تجارته والأخير زواجه مع فارق مهمّ عن الأولي أنّه لم يعتذر حتّى (متى 22: 5 ولوقا 14: 20). لعلَّ هؤلاء ظنّوا، كما يعتقد الكثيرين منّا، أن ما نملك وهوَ سبب جوهري لحياة مستقرّة ومضمونة، وأن عملنا وهو ما نكسب به قوتنا ويشكل باب رزقنا، وأنّ عائلتنا وهي ما يعطي معنى لجهادنا وتعبنا وشقانا وحياتنا وفيه ملاذنا الإنساني، يمكن أن تكن أسباب جوهرية تعذرنا عن تلبيه الدعوة والمجيء إلى الوليمة. والحال، كما رأينا في جواب الآب الملك، لا مكان لهؤلاء من بعد على مائدته. فما هي حال من لأعذار اقلّ بكثير من هذه يرفض المجيء؟!.
لا تعجبنّا من ذلك، فالآب الملك لا يريد القلب المنقسم، بل القلب الذي يحبّه فوق كل شيء، ويحبّه بكل ما فيه من قوّة وحياة ونفس. هذا لأنّه يريد أن يملك على هذا القلب ليمّلِّكه على كل ما لديه. وليس من سبيل لذلك ما دام للشرّ والخطيئة وروح العالم مرتعٌ فيه. فالشوك سيخنق حتماً كل ما يزرعه الآب الملك في هذا القلب. لي أنا المسيحي الدعوة مفتوحة، فما عساه سيكون جوابي؟.
الجمعة 10 حزيران 2005 - عنايا