"في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله... به كان كلّ شيء... فيه كانت الحياة وحياته كانت نور الناس، والنور يُشرِقُ في الظلمة والظلمة لا تقوى عليه... الكلمة هو النور الحقّ جاء إلى العالم ليُنير كلّ إنسان" (يوحنا 1).

يقول لنا يوحنّا في إنجيله أنّ يسوع هوَ النور الذي جاء الى العالم ليُنير كلّ إنسان وقال لنا يسوع: "أنا نور العالم" و "أنتم نور العالم". فما هوَ هذا النور إذاً؟ إنّه بكلّ بساطة حضور الله. حضور الرحمة والمحبّة والحياة. والظلام هوَ غياب الله، هوَ الخطيئة والموت.

يقول مار بولس في رسالته إلى فيليبّي: "في جيل معوَجّ فاسد تُضيئون فيه كالنيّرات في الكون"... فكيف نُضيء عمليّاً؟ كيف نكونُ نحنُ نورًا في ظلام هذا العالم؟.

يعلّمنا يسوع في مَثَل القمح والزؤان أنّ الخير والشرّ ينموان معًا ويكونان معًا جنبًا إلى جنب في هذا العالم، وأنّ اقتلاع الشرّ ممكن أن يتسبّب باقتلاع الخير أيضًا، فيتركهما ليوم الحصاد. فيجب أن نسلّم إذاً أن الشرّ في هذا العالم يتواجد مع الخير، وأنّ النور يكون في الظلمة. فلولا الأباطرة الرومان المجرمين لما كان هناك شهداء، ولولا هتلر لما كانت إديت شتاين ومكسيميليان كولبي، وأحيانًا كثيرة لولا المرض لما كان الوعي للنعمة وحضور الله. فربّما إذا اقتلعنا المرض نقتلع معه نعمة الصليب. إذاً، إذا أردنا أن نكون نورًا فيجب أن نضيء في الظلام لا نتذمّر منه.

في مَثَل حبّة الخردل يعلّمنا يسوع أنّ ملكوت الله ينمو فينا فيبدأ كحبّةٍ صغيرة ثمّ يُصبح شجرة كبيرة. فالملكوت لا يكون فينا كاملاً دفعة واحدة. فنور الله إذاً يكبُر وينمو فينا لينير ظلام العالم، وهذا يتطلّب عناية وسهر وجهد.

مار انطونيوس ومار فرنسيس مِثال على ذلك. حبّات صغيرة نَمَت وكبُرَت وأصبحت أشجارًا كبيرة تُنير العالم بحضور الله.

ونحن مِثل الخميرة في العجين، يعلّمنا يسوع أنّ الملكوت ينمو في الداخل. يدخل في العجين ويخمّره. فالنور لا يعمل من الخارج بل من الداخل. الله لا يريد تدمير العدو بل تغييره. والعدوّ يُهزَم من الداخل وليس بالمواجهة من الخارج. فيدعونا الله للدخول في قلب العالم لنغيّره من الداخل. فالنور لا يعيش خارج ظلام العالم بل في داخله لينيره.

إن النور هو الله، هو النعمة التي ينير فيها الله كلّ إنسان. هو عطيّة مجّانيّة. فيجب ألاّ نحتفظ بها بل أن نأخذها مجّانًا ونوزّعها مجّانًا. عند تكسير الخبز والسمك أخذ التلاميذ الخبز والسمك الوفير مجّانًا ووزّعوا على الجموع مجّانًا. كذلك نحنُ أيضًا الذين نأخذ نعمة النور من الله، يجب أن نوَزّعها على العالم.

ولكن كيف ننير نحن أبناء عيلة مار شربل في هذا العالم المُظلم؟.

ألا نسلُك أحيانًا كثيرة في الظلام ونمشي مشية العالم؟ ونعتمد منطق العالم؟ ونتكلّم لغة العالم؟ ألا نكون نحن أيضًا فاسدين معوَجّين؟ ألا نتعاطى في الواقع المادي والمالي كما يتعاطى العالم فنعتمد طرقًا ملتوية يعتمدها العالم ونبرّر بالقول أنّ هذا ما يفعله كلّ الناس؟ ألا نسعى للربح الوفير وتكديس الأموال؟ ألا نكدّس المقتنيات؟ ألا نساير العالم في الموضة الباذخة والإعوجاج في المسلك والعادات السيّئة والتقاليد الخاطئة فنكون ظلامًا بدل أن نكون نورًا؟

ألا نسير أحيانًا وراء شهواتنا وبطوننا ورغباتنا وغرائزنا فتحجب الخطيئة النور الذي فينا فنزيد الظلام ظلامًا بدل أن ننيره؟ وفي الواقع السياسي ألا نُسيّر كثيرًا بسيرة هذا العالم الجاهل الذي يؤلّه البشر ويزرع الخصام والحقد بين الإخوة؟ ألا يحجب اندفاعنا الأعمى وراء زعماء وتعلّقنا بهم، النور الذي فينا، فنخاصم ونتباعد ونكون ظلامًا في الظلام؟ ألا نعيش أحيانًا كثيرة اللامبالاة فندير ظهورنا للمحتاجين والمتألّمين والمساكين، وننفر من السائلين، ونهرب من الطالبين ونصمّ آذاننا عن المُنادين للرحمة والإهتمام؟

فكم من المرّات نكون ظلامًا في الظلام "وإذا كان النور الذي فيكَ ظلامًا فيا لهُ من ظلام". كما يقول لنا الربّ.

فنحن مدعوّين لأن نكون نورًا في هذا العالم، في هذا الجيل الفاسد المعوجّ، فالنور هو في داخلنا لأنّ ملكوت الله زُرعَ فينا بالمعموديّة، فيجب أن نسهر عليه لينمو ويكبر فنكون الخمير في العجين والنور في الظلمة. فلا نسير سيرة الفساد والإعوجاج بل نستنير من الله ونُنير العالم الغارق في الظلام، ولا ننفصل أبدًا عن المسيح وروحه القدّوس الذي فينا، مهما كانت التحدّيات والصعوبات والمُغريات فنقول مع بولس الرسول: "لا موت ولا حياة، لا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبليّة، ولا علو ولا عُمق، ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبّة الله التي في المسيح يسوع ربّنا". (روما 8).

من إختبارات ريمون ناضر مع القديس شربل: "العالم عم يغرق بالظلام وإنتو نور العالم. لازم ترجع قزازاتكم شفّافة ورقيقة وترجعو تا تنوّروا العالم وتحقّقوا الهدف يللي الله خلقكم من أجله."

صلاة: أعطنا يا ربّ من نورك لنُبعد عنا كلّ خطية تُبعدنا عنكَ ولتقرّبنا لكَ أبناء لله بالرّب يسوع.
كي لا نتعلّق بالجسد وننسى الروح. لكي نسعى لبِناء مجتمع يتجلّى حضوركَ فيه. لكي نعيش كجماعة يتجلّى حبّك فيها. لكي لا نيأس عندما تحيطنا الظلمة من كلّ حدب وصوب. لكي يتجلّى ملكوتك في حياتنا، لكي نشهد للنور الحقيقي، وتكون أعمالنا تجلياً لحضورك في العالم فيرى أعمالنا الصالحة، فيتمجّد أبانا في السماوات. (من الليتورجيا المارونية - التجلّي)