"القديسون وجه رحمة الله"
نأتي على ختام سنة الرحمة التي تأمّلنا خلالها في رحمة الله التي تجلّت قمّتها بتجسّد إبنه يسوع وموته على الصليب وقيامته كي ينتشل الإنسان من بؤس خطيئته ويخلّصه ويعطيه الحياة الأبديّة.
نتذكّر أن كلمة رحمة "هي مشتقّة من رحَم"، وتعني الأحشاء وتُشير إلى الولادة. فالرحمة هي الولادة الجديدة. أن يرحمنا الله يعني أن يلِدنا من جديد لحياة جديدة، وذلك يعني أن يمنحنا فرصة جديدة. وأن نرحم بعضنا بعضًا يعني أن نعطي بعضنا بعضًا فرصة جديدة بالمسامحة والغفران لنولَد من جديد ونبدأ صفحة جديدة قائمة على المحبّة والسلام.
بالأجنبيّة رحمة تعني Miséricorde، وهي مشتقّة من كلمتين، Misère، أي البؤس و Cor، أي القلب. وهي تعني القلب الذي يتحنّن ويتعاطف مع البؤس ويتحرّك نحوه.
نتأمل اليوم بوجوه بعض القدّيسين الذين شعّوا بأنوار رحمة الله وكانوا ولا يزالوا وجه رحمة الله في هذا العالم، وتجلّت فيهم محبّة الله ورحمته للبشر بأبهى صورة.
نبدأ مع القدّيس فرنسيس الذي كان عيده بالأمس. ذلك الشاب الذي عاش الطيش والإنزلاق إلى المجون والضياع والبزخ، كونه كان في عائلة غنيّة، ثمّ حلِمَ بالفروسيّة والقوّة وشارك في الحرب الأهليّة في إيطاليا ووقع في الأسر بيد أعدائه. وهناك عاد إلى نفسه، وفي خلوة السجن اختبر حضور الله. وعند خروجه بدأ بحياة جديدة من التأمل والصمت والصلاة، حتى سمعَ الرّبّ يقول له "رمّم كنيستي" وانطلق في مشروع ترميم كنيسة حجريّة ووصل إلى ترميم كنيسة الربّ في العالم. وأصبح رسول سلام وخادم للفقراء ومبشّراً بإنجيل الربّ يسوع، وتجلّت في حياته وحياة الكثيرين من حوله صورة رحمة الله. إتّحدَ بالله إتّحادًا مميّزاً جعله يتصالح مع الكون والطبيعة والحيوانات، ويتكلّم معها. وقمّة صلاته كانت "يا ربّ إستعملني لسلامك...".
ثانيًا، نتأمّل بحياة الأم تيريزا دي كالكوتا، التي أَعلنَت الكنيسة قداستها منذ بضعة أيام. هي التي يعتبرها العالم بأسره مسيحيّين وغير مسيحيّين أنّها أمّ الفقراء وخادمتهم. تلك الراهبة الصغيرة المتواضعة التي إنحَنَت على بؤس الفقراء في العالم وكرّست حياتها لخدمتهم والإعتناء بهم، دون النظر إلى لونهم أو جنسهم أو دينهم أو وضعهم الإجتماعي. وقد احتملت الإهانات والمشقّات والمتاعب من أجل الفقراء والمهمّشين وكانت وما زالت بالنسبة للبشر وجه رحمة الله. وهي تقول أنّ العلاقة مع الله تبدأ بالصمت وثمرة الصمت هي الصلاة وثمرة الصلاة هي الإيمان وثمرة الإيمان هي المحبّة، وثمرة المحبّة هي الخدمة، وثمرة الخدمة هي السلام.
وهذه هي نفس الطريق التي سلكها مار فرنسيس التي تبدأ بالصمت والصلاة وتنتهي بالسلام مرورًا بالمحبّة والخدمة.
وهي التي عرفَت أن تتعاطى مع الناس بتسامح ومغفرة ومثابرة وترفُّع، واصفة الناس بأنّهم غير عقلانيين وأنانييّن ولديهم أحكام مسبقة ويُحاسبون وينتقدن ويبيّتون النيّات السيّئة ولكن "رغم ذلك، وبكلّ الأحوال": "سامِحهُم وثابِر على الخدمة والمحبّة والبناء لأنّ الأمر في النهاية هو بينكَ وبين الله وليس بينكَ وبينهم."
الوجه الثالث هوَ القّديس مكسيميليان كولبي الذي سُجِنَ في أيام النازيّة في معسكر "أوشويتز" في بولونيا، حيث أراد آمر السجن ان يُعاقب السجناء بسبب فرار ثلاثة منهم. فاختار عددًا من السجناء لقتلهم بإماتتهم من الجوع البطيء في أسفل السجن. وعند استدعائهم صرخ أحدهم: "زوجتي وأولادي". فنهض مكسيميليان وقدّم نفسه بدلًا عنه لتحريره كي يعود إلى عائلته وقضى هوَ بموت بطيء في السجن كان خلاله يشجّع السجناء ويقوّيهم ولم يمت حتى حُقِنَ بإبرة سامّة. مكسيميليان كولبي هوَ قدّيس يجسّد وجه رحمة الله.
ثم نأتي إلى البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني، الذي كان حضوره حضور الرجاء والفرح والرحمة للبشريّة. فرغم حياته القاسية والصعبة والحوادث الكبيرة التي تعرّض لها، بقيَ مثابرًا على خدمة الكنيسة وخلاص النفوس مواجهًا أصعب التحدّيات في سبيل كرامة الإنسان وحريّته وقداسته.
أمّا قدّيسونا في الشرق وأوّلهم مار شربل فيتجلّى في وجوههم وجه رحمة الله.
فما الحشود الكبيرة التي تتقاطر من كلّ أنحاء العالم إلى عنّايا لمعاينة وجه رحمة الله في وجه القديس شربل، الذي ينحني بمحبّته على بؤس الناس وأمراضهم وتعبهم وعذاباتهم فيجسّد بالنسبة لهُم وجه الله المحبّة والرحمة ويد الله الشافية وكلمة الله المؤآسية والمعزّية. فوجه القديس شربل هوَ وجه رحمة الله وحضوره هوَ حضور محبّة الله.
لنتأمل نحن اليوم بوضعنا وبحياتنا. نحن الذين اخترنا أن نكون سائرين على درب القداسة ونقول دائمًا أنّ هدفنا القداسة، وأنّ عيلة مار شربل هي مدرسة تلمذة ليسوع ومدرسة قداسة. هل نعكس نحن اليوم وجه رحمة الله؟ ليبدأ كل واحد بطرح هذا السؤال على نفسه أوّلاً، مبتدئًا من أقرب الناس إليه. هل يعكس الزوج وجه رحمة الله لزوجته؟ والعكس بالعكس؟ هل يُجسّد الأهل اليوم بالنسبة لأولادهم وجه رحمة الله؟ هل أنا وجه رحمة الله في قريتي ورعيّتي وعملي وبين العالم؟ أي وجه يعكس حضوري؟
إذا أردتُ فعلاً أن أكون قدّيسًا يجب أن أطرح بشجاعة وصُدق هذا السؤال وأنظر في الجواب بتواضع.
إذا أردنا حقيقةً أن نكون قدّيسين فيجب أن نكون بالفعل وجه رحمة الله لجميع الناس الذين نلتقيهم. وجه المحبّة والخدمة، وجه الفرح والسلام، وجه التواضع والتجرّد والتضحية. أن نبدأ بالصمت والصلاة ونمرّ بالإيمان والمحبّة والخدمة لبلوغ السلام فنستحقّ أن نُدعى أبناء الله.
من إختبارات ريمون ناضر مع القديس شربل:
"التزموا إلتزام كامل بالكنيسة وبكلّ تعاليمها، وثابروا على الصلا بدون ملل. كرّموا أمّنا مريم العدرا، وتسلّحوا بالمسبحة، لأنّو إسم مريم العدرا بيبدّد الظلمة وبيسحق الشرّ. كونوا رهبان بقلب هالعالم، ولو بدون ثوب. إزرعوا الأرض صلا وبخور. كونوا قدّيسين وقدّسوا الأرض. درب القداسة طويل، لكن تأكّدوا إنّو لمّا بتكون أفكار الله بعقولكن، ومحبّة الله بقلوبكن، بتكون قوّة الله بزنودكن وبتُوصَلوا. وتأكّدوا إنّو كلّ ما تكونوا عَم تصلّوا، بكون عَم صلّي معكُن، تا تتقدّسوا ويتمجّد إسم الربّ"
صلاة:
"يا ربّ إستعملني لسلامك فأضع الحب حيث البغض، والمغفرة حيث الإساءة، والإتفاق حيث الخلاف، والحقيقة حيث الضلال، والإيمان حيث الشّك، والرجاء حيث اليأس، والنور حيث الظلمة، والفرح حيث الكآبة".
صلاة للقديس فرنسيس الأسيزي
مع ريمون ناضر – تشرين الأول 2016 - يوبيل الرحمة