الصليب
الموضوع: الصليب
ما هو سرّ الصليب؟ ولماذا الصليب؟ ألَم يكُن هناك طريقة أخرى أمام المسيح لخلاصنا إلاّ الصليب؟ ما هي حكمة الله وراء إختيار الصليب؟ في سِفر التكوين عندما خطِئَ آدم وحواء غطّوا عُريَهُم بأوراق التين. لقد دخل الإنسان في الخطيئة ولكنّه لَم يُعالجها من الداخل بلّ غطّاها من الخارج فقط بورقة تين، ولكن سَكَنَت الخطيئة فيه وأصبحت من طبيعته، فكيف الخلاص مِن الخطيئة وهيَ التي تفصلنا عن الله؟
أرادَ الله بمحبّته الفائقة للإنسان أن ينزل إلى عمق الإنسان ليُحرّره مِن خطيئته التي تأصّلت فيه فكان الفداء مِن المزود إلى الصليب مِن التجسّد إلى الموت والقيامة للدخول إلى عمق أعماق الإنسان لتخليصه.
لنتأمّل في سرّ الصليب محاولِين أن نُدرك بعض أبعاده:
لقد تجسّد المسيح وأخلى ذاته آخذاً صورة العبد. أراد الله أن يأتي كعبد ليَنزل إلى أقصى قرار في البشريّة ليَطال آخر إنسان، فأراد أن يموت موت العبيد، وكان في زمن الرومان الصليب للعبيد والسيف للأسياد.
الطريقة الوحيدة التي يموت فيها الإنسان منتصباً هي على الصليب. ليُعلن المسيح أنّ الصليب هوَ إنتصاراً وليس هزيمة (الحمل المذبوح القائم في الرؤية).
أراد المسيح أن يموت ميتة علنيّة واضحة على الجبل أمام الجميع ليَراه الآلاف كي لا يقول أحد أنّه لَم يَمُت أو شبّه به، وليكون لرُسُلِه شهادة قويّة على قيامته. فلو ماتَ على فراشه مُحاطاً بتلاميذه لما كان لشهادة تلاميذه وقعاً على النّاس.
نرى المسيح على الصليب فاتحاً يديه إلى حدّهما الأقصى، فهذه هيَ الطريقة الوحيدة التي يموت فيها الإنسان فاتحاً يديه بهذا الشكل وكأنّه يحضن العالم بأكملِه علامة محبّة الله اللامتناهية لكلّ البشر (هكذا أحبّ الله العالم...).
معلّقٌ بين الأرض والسماء كان يُكلّم الآب ويُكلّم الناس، يُكلّم السماء ويُكلّم الأرض، فقد صالَحَ بموته على الصليب الأرض مع السماء.
بموته على الصليب تمّم يسوع النبؤات: "ثقبوا يديّ ورجليّ وأحصوا كل عظامي، في عطشي سقوني خلّاً"... أحصي مع أثَمَة.
قدّم المسيح نفسه على الصليب ذبيحةً للآب، فهوَ الحمل الحامل خطايا العالم، على الصليب كانَ هوَ الكاهن الذي يُقدِّم الذبيحة إلى الآب وفي نفس الوقت الحمل الذي يُقدَّم ذبيحة إلى الله عن الشعب.
"يا ذبيحاً غافراً قرّب ذاته لأبيه، يا حملاً صارَ لنفسه حبراً مقرّباً..."
إختار يسوع موتاً بطيئاً ومؤلماً ليَكشف لنا عن بشاعة الخطيئة ولكيَ نَكرَه الخطيئة والشرّ، فبتأمّلنا بالمصلوب نرى التشويه الذي تُسبّبه الخطيئة ونرى بشاعتها.
آلام يسوع على الصليب هي للتعبير عن محبّة الله لنا فالموت السريع عادةً أسهل من الألم. فكان الصليب التعبير الأفضل عن حبّ الله لنا وحمله لآلامنا.
مات يسوع على الصليب ليَترك لنا علامة، علامة الصليب التي أصبحت فخرنا وعلامتنا، وعلامة المسيح القائم والمنتصر على الموت، علامة محبّة الله للإنسان وهي علامة تُقاوَم كما قال سمعان الشيخ لمريم ويوسف.
يقول القديس بولس في رسالته إلى أفسس: "كي تستطيعوا أن تُدركوا مع جميع القديسين ما هوَ الطول والعرض والعلو والعمق وتعرفوا محبّة المسيح الفائق المعرفة"، يتكلّم مار بولس راسماً شكل الصليب الذي يربط السماء بالأرض ويربط الشعوب كلّها ببعض ويوحّدها ويربط التاريخ كلّه ببعض الماضي والحاضر والمستقبل وبه نعرف محبّة المسيح.
لقد وحّدَ الصليب مفهوم الحبّ والألم ولم يعدْ الصليب أداة موت وألَم وهزيمة بَلْ أصبح علامة حُبّ وحياة وإنتصار.
يقول يسوع : "من أراد أن يتبعني فليَكفر بذاته ويَحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني" ثم يقول: "تعالوا إليّ أيّها المتعبون والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم".
إذا جمعنا هذين القولين نكتشف أن الصليب هوَ سرّ الشفاء. يقول مار بولس: "في ما بعد لا يجلب عليّ أحد أتعاباً لأنّي حامل في جسدي سِمات الربّ يسوع". (غلاطية)
في كلّ واحدٍ منّا آثار للصليب، للصليب إمتداد فينا، لآلام المسيح إمتداد فينا، أكثر الناس الذين يحبّون المسيح هُم الذين يتألّمون معه "أُكَمِّل في جسدي ما نقصَ من آلام المسيح" وبآلام المسيح على الصليب نحنُ نشفى:
إنّ الصليب يشفي من الخوف: يخاف الإنسان من الموت، من المرض، من الألم، من الفشل، وعندما يقترب من الصليب يبدأ الخوف بالإختفاء لأننا نكتشف حُبّ الله.
الصليب يشفي من اليأس ويُعطي الرجاء بالقيامة من كلّ موت.
الصليب يشفي من الكبرياء بمجرّد أن نتأمّل الله مصلوباً، مُهاناً، عرياناً، نخجل مِن كلّ كبرياء فينا ونسجد أمام تواضع الله.
الصليب يشفي من الشهوات التي تُتعِبنا وتَستعبدنا: الشهوة، الطمع، الشراهة، التسلّط.. فعندما نشارك المسيح آلامه نتعالى فوق ضعفاتنا ونتغلّب عليها.
إنّ الصليب يضع الإنسان وجهاً لوجه مع حقيقة الوجود، حقيقة الحياة والموت، حقيقة الخطيئة والقداسة فلا نستطيع أبداً أمام الصليب، أن نُغطّي خطايانا بورقة تين، فالصليب يُعرّينا من كلّ أوراق التين التي نحاول التستّر بها، كي يشفينا منها ويُعيد لنا ولطبيعتنا الضعيفة الخاطئة صورة محبّة الله. الهروب مِن الصليب هوَ هروب مِن الله، هوَ هروب من الشفاء والحياة.
يفني الإنسان أيّام عمره ساعياً ليكون هوَ محور الكون ويعتقد أنّ الكون يدور كلّه حوله، ولكن مع الصليب نُدرك أنّ الكون يدور حول المصلوب. وإذا أردنا أن نكون في محور الكون فلا بدّ لنا أن نكون مع المصلوب على الصليب، ولن نفهم الحياة ولن نُدرك سرّ الوجود إلّا إذا نظرنا إلى العالم مِن على الصليب، مِن قرب المصلوب، مشاركينه آلامه وعذاباته وبها ندرك عمق وعلوّ وطول وعرض محبّة الله لنا وللعالم، فتختلف نظرتنا جذريّاً وجوهريّاً إلى العالم ونسلك درب الشفاء والقداسة ونتّحد بالمسيح القائم من الموت في الحياة الأبديّة.
صلاة:
إحفَظْ، يا ربَّنا، بصليبِ النّور، البيعةَ خِطِّيبتَكَ مِنَ الأضرار،
واختُمْ أولادهَا بعلامتِهِ الحيّةِ، لأنّهم يُزيِّحونَهُ في الأقطارِ الأربعة.
فليكنْ، يا ربّنا، صليبُكَ سوراً للبيعةِ المخطوبةِ بصلبِكَ،
ولا يتسلَّطنَّ الشِرّيرُ المحتالُ على أحبّائها المفتخرينَ بكَ
من البيت غازو الماروني.
ريمون ناضر، 4 أيلول 2017، مار شربل أدوني