" مريم أُمّ الرحمة"
شهر أيار هو شهر خصَّصته الكنيسة منذ القرن السابع عشر لتكريم أمنا مريم العذراء وقد بدأ هذا التقليد على يد الآباء اليسوعييّن في روما منذ القرن السادس عشر.
أمّا أجدادنا في لبنان فقد بدأوا يكرّسونه منذ القدم للعذراء مريم، إذ كانوا يُكرّسون لها ثلاث فترات في السنة: الزروع في كانون والحصاد في أيار والكرمة في آب. فقد كانت أمنا مريم رفيقة وشفيعة أجدادنا بكلِّ ما يعملون في حياتهم اليومية، ولها مكانة خاصة في كلّ تقاليدهم وصلواتهم وفي قلوبهم. لنتأمَّل اليوم بأمِّنا العذراء مريم المجيدة الأمّ والملكة، لقد أراد الله أن يبدأ بشريَّة جديدة بحوّاء جديدة يتجسَّد فيها ويُولد منها ومن الرّوح القدس إبنه يسوع، آدم الجديد، فوُلِدت مريم معصومة من الخطيئة الأصلية وهذا ما تُعلِّمه كنيستنا كعقيدة الحبل بلا دنس.
لقد خَلقَ الله الإنسان على صورته كمثاله، أي أنَّه خلقهُ على صورة المحبَّة لأنَّ الله محبَّة. لكن خطيئة الإنسان وعصيانه لله، تُشوِّه هذه الصورة، فيصبح الإنسان عندما ينقطع عن الله غير قادر على المحبَّة. فالخطيئة الأصليّة التي يولد بها الإنسان تجعله ضعيفاً، ناقصاً بمحبَّته، ميَّالاً لتلبية رغباته وشهواته، غير قادر على الحُبّ الإلهي المُطلق. أمَّا مريم فقد وُلِدَت دون هذه الخطيئة وبالتالي فقد وُلِدَت وفيها القدرة على الحُبّ الإلهي المطلق، فلا خطيئة فيها تُشوِّه صورة الله. فقد حملت مريم منذ ولادتها قلب الرحمة الإلهيَّة ومن خلاله كانت تنظر إلى البشريَّة المعذَّبة التي هي بحاجة إلى خلاص وأدركت منذ لحظة البشارة، أنَّ ابنها هو الذي سيُخلِّص تلك البشريَّة التي تحبُّها مريم حُبَّاً كبيراً.
في عُرس قانا الجليل كانت ترى مريم بإبنها يسوع العريس السماوي الذي أتى ليصالح الأرض مع السماء.
ففي العهد القديم كان الأنبياء يصفون العلاقة بين الله وشعبه، علاقة العريس بعروسه ولكن هذه العلاقة تشوَّهت بفعل خيانة العروس لعريسها، الذي بقي هو وفياً لها ويُريد إستعادتها.
لقد تشوَّه العُرس وتوقَّف بسبب الخطيئة: لقد فُقد الخمر، فُقد الفرح. وها هو يسوع اليوم العريس، هو الله، الذي سيُعيد فرح العُرس بخمرة جديدة. "لَيْسَ لَدَيْهِم خَمْر"، لقد توقّف العُرس، توقّف الفرح. "إفعلوا ما يأمرُكُم به" بهذه الكلمات التي نطقت بها مريم إختصرت أقوال كلّ الأنبياء والشريعة وعملت ليكتمل العُرس بين الله وشعبه.
منذ ولادة يسوع وطفولته كانت مريم تنظر إليه بعين الحُبّ الأمومي العظيم وتنظر إلى البشريَّة بعين الرحمة والحنان، وترى إبنها الذي تحبّ وتعبد يُخلِّص تلك البشريَّة التي تعطف عليها وتحبُّها. في التقدمة للهيكل أدرَكَت مريم كَم سيكون عُمق ألمها على لسان سمعان الشيخ، ولكن بقدرتها العظيمة على الحُبّ كانت تتخطَّى ألَم السّيف الذي سيجوز في قلبها.
عندما أضاعته في أورشليم ووجدته في الهيكل، إنفصلت عنه ثلاثة أيَّام، فذاقت طعماً مسبقاً لموته وقيامته وقد قال لها: "يجب أن أكون في ما هو لأبي"؛ وكانت مريم تعرف تماماً ما هو مشروع الله لمسيحِه، الذي سيُخلِّص العالم بآلامه، لأنَّها كانت تعرف الكُتُب.
ومريم عند الصليب كان قلبها مُفعم بالحُبّ الإلهي، الحُبّ المتألِّم حتّى العظم لإبنها المعذَّب والمُهان والمشوَّه والمائت على الصليب، ولكن أيضاً للشعب الذي كان يصلبه، وكانت مريم تعرف أنَّه بحاجة للخلاص وهُم لا يدرون ماذا يفعلون. فكان قلبها يتمزَّق على إبنها وعلى الشعب.
وعند القيامة لم تذهب مريم مع النسوة صباح الأحد لتُطَيِّب جسد يسوع، مع أنَّها كانت معهنّ في كلِّ المراحل، لإدراكها أنَّه لم يعُد في القبر. وعاشت فرحة القيامة والخلاص.
أمَّا في الرؤيا، فيُخبرنا القديس يوحنّا أنَّه رأى هيكل الله في السماء ينفتح ويظهر تابوت عهده في هيكله، وحدثت بروق وأصوات ورعود وزلزلة وبَرَد عظيم، وظهرت آية عظيمة في السماء، إمرأة ملتحفة بالشمس وتحت رجلها القمر وعلى رأسها إكليل من إثني عشر كوكباً وهي حُبلى تتمخَّض لتَلِد وتواجه تنّيناً عظيماً بسبعة رؤوس وسبعة تيجان وعشرة قرون. وحدثت حرب في السماء بين ميخائيل وملائكته والتنين وملائكته. وغضبَ التنين على المرأة وذهب ليصنع حرباً مع باقي نسلِها الذين يحفظون وصايا الله وعندهم شهادة يسوع المسيح.
فمريم هي تابوت العهد الجديد الذي يحمل كلمة الله الحيّ. فقد اختفى تابوت العهد القديم مع دَمار الهيكل سنة 583 ق.م ولَم يَعد أبداً إلى الظهور حتى ظهَر في رؤيا يوحنا للدلالة على مريم، تابوت العهد الجديد، الذي رقص أمامه يوحنا المعمدان في بطن أليصابات، كما رقص داود أمام تابوت العهد القديم، عند نقله إلى أورشليم. وكما أقامت مريم ثلاثة أشهر في بيت أليصابات، كذلك كان قد أقام تابوت العهد ثلاثة أشهر في بيت عوبيد أدومَ الجَتّي وباركه قبل أن يُنقل إلى مدينة داود. وكما كان تابوت العهد القديم يُمثِّل حضور الله وانتصار شعب إسرائيل، عندما كان يتقدَّمهم في حروبهم، فكذلك مريم تابوت العهد الجديد، تمثِّل اليوم حضور الله بواسطة إبنها يسوع المسيح، وانتصار الكنيسة بحربها، عندما تتقدّمها مريم الملكة. فمريم هي اليوم أُمّ الكنيسة والملكة التي تتقدَّمها في حربها ضد التنين.
نحن اليوم نعيش في خِضمِّ تلك الحرب الدائرة بين الكنيسة ورأسها المسيح وتتقدَّمها مريم الملكة، وبين التنين وملائكته الذي يُمثّل روح العالم وروح الشرّ والخطيئة وعصيان الله.
ففي أي جهة نحن ومَع مَن؟ هل نحن جنود للمسيح في كنيسته وملكتنا مريم، نعمل بوصايا الله وعندنا شهادة يسوع المسيح؟ أَم أنّنا نسير في روح العالم ونقِف من حيث لا ندري مع ذلك التنين الحيَّة القديمة؟
لقد اخترنا أن نكون في جيش يسوع والكنيسة وأُمّنا مريم الملكة، وأن نُقاوم روح العالم والشرير بصلاتنا وعيشنا الأسرار والإلتزام بوصايا الله والكنيسة والطاعة المطلقة لتعاليم ربِّنا يسوع المسيح، والإبتعاد عن الخطيئة وكلّ ذلك يتطلَّب التسليم التّام لنعمة الله، التي تعمل فينا لتقديسنا وسِرّ هذا التسليم هو التواضع.
فنطلب من الله بشفاعة وصلاة أمِّنا مريم أن يهبنا نعمة التواضع للتّسليم التّام لمشيئته على مثال أبينا القديس شربل.
من إختبارات ريمون ناضر مع القديس شربل:
"التزموا إلتزام كامل بالكنيسة وبكلّ تعاليمها، وثابروا على الصلا بدون ملل. كرّموا إمّنا مريم العذرا و تسلّحوا بالمسبحة، لأنو إسم مريم العذرا بيبدّد الظلمة وبيسحق الشرّ."
صلاة:
"يا سيّدة لبنان، نسألُكِ أن تشملي بعطفكِ وطنَنا الحبيب لبنان وكلَّ الشرق، هذه المنطقة الّتي على أرضها تحقّقَتْ أحداثُ التدبير الخلاصيّ، وانطلقَتِ الكنيسة بدافع الروح القدس، حاملةً البُشرى السارّة إلى كلّ الشعوب، وشاهدةً للسيّد المسيح حتّى الإستشهاد، ومحافظةً على وديعة الإيمان، تنقلها من جيلٍ إلى جيلٍ، إلى أن وَصَلَتْ إلينا. يا أُمّ الكنيسة، ساعدينا بشفاعتكِ، نحن أبناءها وبناتها، الّتي أنتِ منها ومثالها وأمّها ومعلّمتها، لكي نعيش شركة المحبّة فيما بيننا، ونشهد للقِيم الإنسانيّة والمسيحيّة في حياتِنا العائليّة والإجتماعيّة والوطنيّة ونعمل على تعزيزها في لبنان والشرق، ونجعل منها حاضرةً ترتقي بالإنسان إلى الإصغاء بطواعيّة فُضلى إلى الله، الّذي يخاطبه بإستمرار."
(من صلاة البطريرك الراعي في تكريس لبنان والشرق إلى قلب مريم الطاهر)
مع ريمون ناضر - أيار 2016 - سنة الرحمة