"الإستشهاد في القرون المسيحية الثلاثة الأولى"
الموضوع: "الإستشهاد في القرون المسيحية الثلاثة الأولى"
مع الأب المدبّر أيوب شهوان – تشرين الأول 2017
موضوع الإستشهاد له إمتداد لإستشهاد آخر، الإستشهاد الأبيض، الذي سلكه مار شربل، وعيلة مار شربل التي تعيش الإلتزام بيسوع من خلال نَفَس مار شربل، هي أيضًا تعيش شيء من الشهادة البيضاء التي عاشها القديس شربل بإلتزامها، بالمواظبة على التعليم والمشاركة وكسر الخبز والصلوات.
كنيستنا في لبنان اليوم متألّمة، والسبب داخلي، وأنا أؤمن بأن عيلة مار شربل في الكنيسة علّة خلاص، بسبب عيش الشركة على مثال الرّسُل، الذين كانوا يتقاسمون كلّ شيء، وخاصة الأمور الروحية، وكنيستنا موجوعة بسبب التشرذم وسببه تغييب روح الله. صلاتي أن تبقى عيلة مار شربل عيلة مثالية تشهد، كلّ واحدٍ على طريقته لحُبّ يسوع، لأنّه بدون يسوع العالم يموت.
موضوع الإستشهاد مؤلم في الظاهر، دم، قتل، إضطهاد، حرق، تدمير... وحشية مورِسَت بحقّ الكنيسة. لكن بالنّعمة هذا الإستشهاد يُعطي الكنيسة مناعة وقوّة روحيّة. وإلى اليوم الكنيسة في خضمّ آلام لا حدّ لها، عندنا والدول المحيطة بنا التي تُجاهد حتى الدم.
إذاً الشهادة في القرون الأولى هيَ دعم تأسيسي لمسيرة الكنيسة التي أسّسها ربنا يسوع على الصخر.
اليوم نتأمّل بموضوع الإستشهاد لكي نعود ونرتبط روحياً بالكنيسة الأولى.
البابا القديس يوحنا بولس الثاني قال أن شهداء القرن العشرين قد يفوقون عددًا شهداء القرون الأولى. ونحن اليوم في القرن 21 وما زالت الكنيسة تُقدّم الشهداء بأعداد كبيرة.
ولا ننسى اليوم شهداؤنا في لبنان الذين إستشهدوا فقط لكونهم مسيحيين، هُم أحباؤنا، "لا يحقّ لنا أن ننساهم"، كما قال شارل مالك، فهُم محفورون على قلوب مِن لحم في حياتنا وكياننا، والوَفاء يتطلبّ منّا أن نرتقي إلى مستواهم ولو روحيّاً. لبنان لا يعيش إلاّ بالكِبَر وهُم الكبار.
الكنيسة الأولى وُلدت من دم الشهداء و"دم الشهداء هوَ زرع المسيحيّين"، عبارة رائعة إستشهد بها البابا القديس يوحنا بولس الثاني.
موضوع شهادة الدم، لا يمكن أن يُفهم على حقيقته الجوهرية إلاّ بفهم تجذّره بشهادة يسوع من أجلنا، ثم رُسُله وتلاميذه وكلّ القديسين بعدهم وتجذّرهم في الحُبّ الذي لا يعرف حدّا سوى بذل الذات من أجل الآخرين.
الجماعة المسيحيّة هي مستودع الإيمان، فيها تتكوّن القناعات الإيمانية، وينقل التعليم والتوجيهات الخُلقيّة والسلوكيّة المُستلهمة من شخص يسوع وتعليمه، تعليم الكنيسة.
قال الربّ يسوع لرُسُله: سَيُسلِمُونَكُم إِلى المَجَالِس، وفي مَجَامِعِهِم يَجلِدُونَكُم. وتُسَاقُونَ إِلى الوُلاةِ والمُلُوكِ مِن أَجلي، شَهَادَةً لَهُم وِلِلأُمَم (متى 10). فالربّ يُوضح أن السّير معه ليس سهلاً... وتلاميذه أصرّوا في الذهاب إلى النهاية في البشارة ولم يتراجعوا، وهذا الثبات أدى إلى إستشهادهم. قوّة إيمانهم لم يقف في وجهها أي مِحَن ولا ضيق. فكانوا دائمًا يذكرون قول الربّ: "إفرحوا وتهلّلوا لأن أجركم عظيم في السماء" (متى 5).
إذاً قافلة الشهداء من إسطفانوس الذي رُجِمَ سنة 36، ثم يعقوب الذي قتل بحدّ السيف سنة 44، إستمرّت، ومَنَحَت هذه الشهادة الكنيسة قوّة خلاص. فلقد صار الإستشهاد واقعاً يرافق المسيحيّة إلى إنتهاء العالم.
بعد إستشهاد معظم الرسل والتلاميذ الأوائل تكوّن التعليم والفكر اللاهوتي حول الإستشهاد. وصار للأجيال مرجعًا يؤمّن التواصل مع مَن سبقوا ومَن سيأتي بعدهم. والثابتة الأهمّ كانت محبّة المسيح ولو على حساب الحياة الجسدية.
شهداء وشهيدات أبطال، لا نفهَمهم إلاّ إذا صرنا مِن القطيع الصغير، إخوة يسوع الصغار.
القديس إغناطيوس الإنطاكي إستشهد، والقديسة تقلا واجهت الإستشهاد، لم يردعها شيء، قديسون وقديسات كُثُر تحدّوا الموت ولم يتراجعوا. فشهادة الدم صارت عقيدة راسخة في القرون المسيحية الأولى وأسمى تعبير عن الحُب. لقد حرّك الشيطان ملوك وولاة هذا الدهر ضدّ أبناء الكنيسة وبناتها... لكن موت الأبرار أدّى إلى نموّ الكنيسة في كلّ أقطار العالم.
في كتاب أعمال الرسل، يخبرنا القديس لوقا، "وحدث في ذلك اليوم إضطهاد عظيم". كانت نتيجته التشتّت، فوصل المسيحيّون إلى بلدان كثيرة. وهذا التشتّت أدّى إلى زرع الإنجيل ونَمَت الكنيسة. دم الشهداء رَوى الأرض فأزهَرَت.
منذ أيام الرّسُل حرّض اليهود الجميع على المسيحيين... فقسّوا الأباطرة وخاصة نيرون وقتلوا مئات الآلاف من المسيحيين... لكن بالرغم من هذا الضيق الشديد، كانت الكنيسة تنمو وعدد التلاميذ يتكاثر جداً... والكنيسة تُزهر حتى صارت شجرة تغطّي المسكونة كلّها. لم تقوَ على الكنيسة أبواب الجحيم. سقط آلاف الشهداء في الإمبراطورية الرومانية على مدى 250 سنة، إلى درجة أنّه في عهد دوموسيانوس كان إذا حدث زلزال أو مجاعة أو وباء يُتهّم المسيحيون ويُضطهدون حتى الموت...
في القرون المسيحيّة الثلاثة الأولى، تميّز المُضطَهَدون من أجل البِرّ بمواقف عظيمة جعلتهم أقوى من خصومهم. على مثال المعلّم يسوع، "في البريّة كان بين الوحوش وكان الأقوى" والمسيحيون كانوا بين الوحوش البشرية وكانوا هُم الأقوى.
عبّروا عن الفرح بالإستشهاد لَم يفهمه خصومهم... والأكثر إثارة للدهشة كانت المغفرة كموقف إسطفانوس الذي بلغَت بِهِ القوّة الروحية وصلّى وهوَ يُرجَم، "يا ربّ لا تُقِم عليهم هذه الخطيئة". وأيضًا تميّز المسيحيوّن بالصلاة، فكانوا في عزّ محنهم، يصلّون، فشهداؤنا، رجال ونساء صلاة. مِيزة أخرى تميّزوا بها، هي محبّة الأعداء، تعليم يسوع راسخ فيهم، "أحبوا أعداءَكم، باركوا لاعنيكم". وبقوّة إيمانهم وشهادتهم، إهتدى الكثير من أعداء المسيح إلى الإيمان، بالمحبّة التي دائمًا تغلب.
وأيضًا تميّزوا بالفرح، يذهبون إلى الموت بفرح أذهَلَ الجميع، وهذا يُخالف المنطق البشري. لكن العون الإلهي الذي وعدَ به يسوع، وقوّة قيامته هي قوّتهم وجعلتهم يفرحون، لأنّهم تطلّعوا إلى المجد الآتي، عانقوا الموت بهدوء وسلام أذهل وأدهش أعداءهم.
هكذا أضحت شهادة الدم طاقة ساهمت في نمو الكنيسة.
إنتهى القرن الثالث بإنتشار عظيم للمسيحيّة وبدأت مرحلة أخرى من الشهادة بدون دم مهراق، شهادة الحياة النسكية والتزهدية، إذ في الشرق الأوسط رَكّز الشهداء الأوّلون أُسُس الكنيسة الناشئة وملأ النسّاك الصحاري والبراري.
إنتصر المسيح الربّ بشهادة دم شهدائه القديسين، إنّها شهادة المسيح الحيّ إلى دهر الدهور، آمين.
صلاة:
"أيّها الله الآب أبو الإبن المبارك المحبوب يسوع أباركك لأنّك جعلتني أهلاً لأن أُحسَبَ في عداد شهدائك وأن أشارك في كأس مسيحك من أجل الحياة الأبدية". آمين
(صلاة صلّاها القديس بوليكاربوس سنة 155 وهو مقيّد فوق كومة من الحطب قبل إستشهاده)