"هذه أمّك" (يو 19 / 27)
"هذه أمّك"(يو 19 / 27)
مع ريمون ناضر - أيار 2017
من الطبيعي والمهمّ أن نلتقي في شهر أيّار مثل كلّ سنة حول مريم لنتأمّل بها ونتعلّم من مدرستها ونغرف من روحانيّتها ونكتسب من فضائلها.
إنّ أعظم حدث في التاريخ هوّ سرّ التجسّد وإنّ أعظم إمرأة في التاريخ هيَ مريم فهي حاضرة في تاريخ البشريّة ومسيرتها منذ تكوين الكون وحتى إنقضاء الدهور.
نتأمّل في مريم اليوم من خلال طلبة مريم العذراء التي انطلقت من لوريتو في القرن السادس عشر ومن خلال نشيد مريم في إنجيل لوقا.
كانت مريم بعد يسوع محور حياة آبائنا وأجدادنا وكانت طلبَتها تتردّد في قلوبهم وعلى شفاههم وكانت الصلوات المريميّة مثل المسبحة الورديّة وزيّاح العذراء إلى جانب الطلبة، تجمع العائلات حول مريم كلّ مساء فتزرع في قلوبهم الوحدة والسلام والفرح والمحبّة.
وكانت مريم سبب إتّحاد عائلاتنا وقوّتها وكذلك سبب صمود أجدادنا وآبائنا في وجه كلّ العواصف والإضطهادات والتحدّيات.
طلبة مريم العذراء تتألّف من أربعة محاور بعد رفع الصلاة للثالوث الأقدس في بدء الطلبة تتردّد كلمات، الأمّ ثمّ البتول ثم السلطانة وصفات لمريم مستلهَمة من الكتاب المقدّس.
فمريم العذراء هيَ الأمّ التي تجمع وتسهر وتربّي وتتحنّن وتعطف وهيَ البتول الطاهرة النقيّة المعصومة مِن كلّ عيب ودنس وخطيئة، هيَ السلطانة فوق كلّ الكائنات والبشر، فوق جميع القدّيسين والأنبياء والرسل والشهداء. فهيَ أرفع مخلوقات الله. ثم إنّ ظِلّ مريم يظهر في كلّ سياق الكتاب المقدّس، فهي تابوت العهد الذي يحمل كلمة الله وبُرج داود الذي يسهر ويحمي المدينة وبُرج العاج الثمين والصلب، مثل العنق الذي يحمل الرأس وأرزة لبنان التي منها بُنيَ هيكل سليمان، وباب السماء في رؤية يعقوب والإناء الروحي المملوء بالنّعمة ومرآة العدل التي تعكس عدل الله... والكثير من الصفات الأخرى التي تختصر خبرة الكنيسة جمعاء للعذراء مريم.
فكلّ عبارة من الطلبة تحمل خبرة الكنيسة العميقة مع مريم. فبتأمّلنا بهذه الطلبة والدخول إلى أعماق كلماتها نبني علاقة مع مريم العذراء ونعيش إختبار الكنيسة.
ثمّ نتأمّل بنشيد مريم لندخل إلى مدرستها ونتعلّم منها الكثير مِن الفضائل التي تؤهلنا لدخول الملكوت. فجميع القدّيسين بدون أي إستثناء دخلوا مدرسة مريم وتخرّجوا مِنها. فمدرسة مريم هي الممَرّ الإجباري لدخول الملكوت. لأنّها تُكسبنا الفضائل الضروريّة للقداسة.
سنذكر ونتأمل ببعض تلك الفضائل مِن نشيد مريم ومِن بعض مقتطفات حضور مريم في الكتاب المقدّس. فماذا تعلّمنا مريم؟.
عدم التأثّر بالمديح والتركيز على عظمة الله.
لقد قال الملاك لمريم كلاماً يشتهي كلّ إنسان أن يسمع كلمة واحدة منه: إفرحي يا مريم أيتها المملوءة نعمة، نلتِ حظوةً عند الله، ستحبلين وتلدين إبناً، سيكون عظيماً وإبن العليّ يُدعى. سيكون ملكاً على عرش داود ويملك على بيت يعقوب أبد الدهور...
الروح القدس ينزل عليك وقوّة العليّ تظلّلُكِ والمولود مِنكِ قدّوسٌ... وبعد ذلكَ أخبرها عن أليصابات العجوز الحامل، فلم يكُن لمريم إلاّ أن انطلقت لخدمة أليصابات، ولم تتوقّف عند تعظيم الملاك، ولم تعظّم نفسها بل اعتبرت نفسها خادمة وانطلقت للخدمة.
وعند وصولها إلى عين كارم على بعد 150 كلم من الناصرة، أي مسيرة حوالي 50 ساعة رغم صغر سنّها، لم تَسكَر من هتاف أليصابات وتعظيمها لها، بل أنشَدَت نشيد تعظيم الله: تُعظّم نفسي الربّ وتبتهج روحي بالله مخلّصي. فهيَ ترفع كلّ عظمة إلى الله وليس لنفسها. فهي لا تقبل التعظيم لنفسها وحتى أنّها لم تذكر كلمة "أنا" بل قالت "نفسي" و "روحي".
والقدير صنع بي العظائم فأنا أمَة، نظر الله إلى صغرها وإتضاعها وهوَ الذي رفعها لتطوّبها الأجيال.
الإمتلاء من كلمة الله والكُتُب المقدّسة: ذَكَرَت مريم في نشيدها كلّ تدبير الله الخلاصي وأظهرت معرفة عميقة بالكُتب المقدّسة. فهي منشغلة فقط بالله ناسية نفسها تماماً.
التسليم وعدم القلق: مريم كانت يتيمة دون أهل ولا إخوة ولا أخوات، وحيدة وحملت حملاً عظيماً ومسؤوليّة كبيرة من الله، هيَ الأعظم في التاريخ ورغم ذلك فكانت مسلّمة أمرها لله دون قلق أو تذمّر.
مريم إمرأة صلاة ومحبّة: فهي في تواصل دائم في فكرها وقلبها مع الله ولا تهتمّ إلّا لله والخدمة للقريب ولا تركّز على حالها أبداً.
الصمت والتأمّل: مريم دائماً تصلّي وتحفظ في قلبها وتتأمّل بصمت. فلقد كانت صامتة عند ولادة يسوع دونَ أن تتلفّظ بكلمة، صامتة عند تقدمة يسوع للهيكل رغم كلام سمعان المؤلم... صامتة عند الصليب فالجميع تكلّم لصّ اليمين، لصّ الشمال، قائد المئة... وهي بقيت صامتة تصلّي وتتأمّل، عند القيامة بَقِيَت صامتة... صَمت مريم يُدوّي في العالم والكنيسة بهدوء ومحبّة.
المبادرة للخدمة: الإسراع إلى أليصابات وخدمتها حتى ولادتها يوحنا... في عرس قانا الجليل "لم يَعد لديهم خمر"..."إفعلوا كلّ ما يأمركُم به"...
الهدوء والتواضع وقبول الظروف: مريم دائمة الهدوء وقبلت كلّ الظروف التي عاشت فيها بتواضع وتسليم وهدوء نحن بأمسّ الحاجة إليه في أيّامنا هذه.
مريم الأم، البتول، السلطانة، الملكة، أُمّ الملك، مالئة تاريخ الخلاص بحضورها وقداستها وشفاعتها. مريم مدرسة قداسة، لا نَعبر إلى الملكوت إلّا بتتلمذنا وتخرّجنا من هذه المدرسة، مدرسة الصلاة والمحبّة، مدرسة الصمت والخدمة، مدرسة العبادة الحقيقيّة، مدرسة التأمّل بكلمة الله وحفظها وعيشها، مدرسة بذل الذات ونكران الذات والكفر بالذات من أجل الله والقريب وبدون هذه المدرسة لا نتعلّم شيئاً ولن نعرف الله.
من صلاة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في لورد:
السلام عليكِ يا مريم، يا امرأة فقيرة متواضعة باركها العليّ. يا عذراء الرجاء ونبوءة الأزمنة الجديدة، نحن نضمّ صوتنا إلى نشيد التعظيم الذي تلوتِه أنتِ، لنشكر الربّ على نعمه. ولنعلن مجيء الملكوت والتحرير التام للإنسان...
السلام عليكِ يا مريم، يا امرأة الإيمان، الأولى بين التلاميذ. أيتها العذراء، أمّ الكنيسة، ساعدينا لنكون أمناء للرجاء الذي فينا، ولنكون واثقين بطيبة الإنسان وبحُبّ الآب.
علّمينا أن نبنيَ العالم من الداخل:
في عُمقِ الصمت والتأمّل، وفي فرح الحُبّ الأخويّ، وفي خصب الصليب اللامتناهي،
يا قديسة مريم، أمّ المؤمنين. صلّي لأجلنا.