"أَمّا أَنتَ، مَتَى صُمتَ..." (متى 6 / 17)
"أَمّا أَنتَ، مَتَى صُمتَ..." (متى 6 / 17)
نَصِل إلى مدخل زمن الصوم مِثل كلّ سنة، ونبدأ بالإستعداد لهذا الزمن الفائق الأهميّة الذي تعيشه الكنيسة جمعاء، وتدعو جميع أبناءها للإلتزام بهِ بغية الإرتفاع خلاله للإقتراب أكثر من الله والإستفادة الروحيّة القُصوى من هذا الزمن القوي لقداسة أجسادنا ونفوسنا. نبدأ تأمّلنا اليوم بطرح سؤال أساسي: هل أنا إنسان جسداني أَم روحاني؟ إذا كنتُ إنساناً جسديّاً فلا داعي للصوم على الإطلاق، لأنّه سيكون بلا فائدة وعِبء وتمثيليّة أعيشها لتحقيق أهداف فارغة تُوصِلني إلى الفراغ.
أمّا إذا كنتُ إنساناً روحانيّاً فيَجب عليّ أن أعيش روحيّة الصوم طوال أيّام حياتي بكلّ تفاصيلها، فلا أعيش بالشراهة والطمع والبذخ وإرضاء الشهوات الفانية. من هنا، فإنّ زمن الصوم بالنسبة للإنسان الروحاني يأخذ أبعاداً مختلفة لا تقتصر فقط على الأمور الخارجيّة - التي هي مهمّة جداً بطبيعة الحال- بل تتعدّاها لبلوغ مستويات أعلى وأسمى بالعلاقة مع الله.
فالصوم في المسيحيّة ليس فرضاً إجباريّاً تُقاصَصْ إذا لم تَقُم بهِ، ولكن إذا قرّرتَ أن تصوم فليَكُن صوماً كاملاً بكلِّ تفاصيله لتحقّق أهدافه. لأنّ صومك بالأساس هوَ بينك وبين الله، وإذا لم تستفد من هذا الزمن فأنتَ وحدكَ الخاسر.
إنّ الصوم المسيحيّ هوَ قصّة عُشق إلهي. يَتخلّى فيها الإنسان عن أشياء كثيرة، ويُغيّر من أنماط عيشِه مِن مأكل وملبَس ومشرَب وإدارة وقتِه من أجل اللقاء بالحبيب والتقرّب منه.
عندما سُئِل المسيح لماذا لا يصوم تلاميذه، أجاب أنّه لا يجوز أن يصوموا والعريس بينهم، "ولكن ستأتي أيّامٌ حيث يُرفع العريس عنهم فحينئذٍ يصومون". (متى9 / 15) (مر2 / 19) (لو5 / 35). إذاً بعد إرتفاع المسيح نحن في حالة صوم دائم، وهذا الصوم هوَ بغية اللقاء به والسّكَن معهُ بعد إرتفاعه عنّا.
فبالصوم والصلاة فقط نعود لمشاهدته. لم يكن يسوع يريد أن يكون صومنا مثل صوم اليهود صوم جسدي فقط وبحسب الشريعة، بل هوَ شوق إلى السماء، شوق إلى لقائه بعد إرتفاعه عنّا. وهذا الشوق يجعلنا نزهُد حُكماً بأمور هذه الأرض فنتقشّف وننقطِع عن المادة من أجل إضرام الروح وإشعال الحُبّ الإلهي في قلوبنا.
الصوم إذاً هوَ قصّة حُبّ بيني وبين المسيح، أترك وأتخلّى وأنقطِع وأمتنِع لأُرَكّز عليه وحده وعلى علاقتي به. الدخول في الصوم هوَ مثل الدخول إلى المشفى الروحيّ كي أُشفى من كلّ ما يُبعدني عن المسيح: شهوات، ضعوفات، أفكار، سقطات... وهذا لا يتمّ إلّا بالمراجعة الدقيقة والفحص العميق لحالتي الروحيّة وذلك عبر تسليط ضوء كلمة الله في الإنجيل على روحي المريضة. والأمثل لذلك هو عظة الجبل (متى 5 و 6 و7).
كيف أعيش صومي إذاً على ضوء ما تَقَدّم؟
الهدوء: الإبتعاد عن الضجيج ومحاولة العزلة الجزئيّة للتأمّل الدائم، لقد إنسحَبَ المسيح إلى القفر للصوم والصلاة.
الصلاة: لا معنى للصوم بدون الصلاة، أنا أنقطع عن الطعام والأهواء للإتصال أكثر بالربّ يسوع والجلوس معه وذلك لا يكون إلّا بالصلاة، وكما قال يسوع: هناك أجناس من الشياطين لا تخرج إلّا بالصوم والصلاة، وكَم من الشياطين في داخلنا؟ الطمع، الغضب، الإدانة، الشهوات...
مواجهة جذور الخطيئة التي فينا: شهوة الجسد وشهوة العين وشهوة الإفتخار وهي التجارب التي عاشها يسوع في الصحراء.
التأمّل بكلمة الله في الإنجيل: الإنسان الجسداني يَشبَع من الطعام أمّا الإنسان الروحاني فهو يَشبَع من كلمة الله. "طعامي أن أعمل مشيئة أبي".
السجود لله: نأخذ وقتاً للسجود لله. فنحن نسجد يوميّاً لعشرات الآلهة، في زمن الصوم نسجد للربّ وحده وإيّاه وحدهُ نعبُد لنتحرّر من آلهة العالم.
الإيمان: أستفيد من زمن الصوم لأُقوّي إيماني الضعيف فأثِق أكثر بالله وأثِق أكثر بمحبّته لي رغم كلّ الصعوبات التي أمرُّ بها، فلا أُجرّب الربّ إلهي عند كلّ عقبة أو صعوبة أمُرُّ بها.
عِشرة القديسين: في زمن الصوم أعيش برِفقة القدّيسين، أعمَل أعمالهم، أقول أقوالهم، أقتدي بفضائلهم وأسعى إلى نصيبهم، فمعهُم أُقوّي علاقتي بالسماء وأُصبح مِن أهل السّماء.
الصوم بالنسبة لي إذاً لا يجب أن يكون فرضاً أو قهراً أو غصباً أو مسايرة أو تقليد شعبي أعيشه وأبقى روحيّاً في مكاني. الصوم هوَ شهر عسل مع الله، فيهِ أسعى بكلّ قواي للقاء الحبيب يسوع والعيش معهُ بكليّتي مائتاً عن جسدي وعن عالمي، لأحيا بهِ ومعهُ فقط. فيكون صومي محطّة إضافيّة في مسيرة قداستي.
صلاة:
"قُدني، أيّها النّور اللطيف خلال الظلمات التي تكتنفني. قُدني أنتَ دوماً إلى أبعَد فالليلُ دامِس، وأنا بعيد عن الدّار . قُدني أنتَ دوماً إلى أبعَد واحفَظ خطواتي". (الكاردينال جون هنري نيومان.)
شباط 2018 - مع ريمون ناضر