"الألم والتجربة" مع ريمون ناضر – نيسان 2015
يُولد الإنسان بالألم ويعيش بالألم ويموت بالألم، فلماذا يتألّم الإنسان؟
وما هو سرّ هذا الألم؟ سؤال يطرحه جميع البشر.
والسؤال الأكبر هو: إذا كان الله موجودًا وصالحًا ومُحبًّا، فكيفَ يرضى أن تتألّم مخلوقاته الذي من المفترض أنّه يحبّها؟ ألا يستطيع منع الألم عن مخلوقاتِه؟ أم أنّه لا يريد؟ هل هوَ غير قادر على إزالة الألم ومحو العذاب؟ أم أنّه قادر ولكن غير راغب؟ بالنسبة للإنسان، إن الألمَ هوَ شرّ وكيف يرضى الله بالشرّ؟
لا نستطيع فهم الألم وإدراك معناه وسببه إلاّ عن طريق وعي وإدراك محبّة الله أولاً ثمّ غاية الإنسان النهائيّة ثانيًا.
أولاً: إنّ حُبّ الخالق للمخلوق لا يضاهيه أيّ حُبّ آخر من مخلوق لآخر مهما عَظُم.
فالله هوَ خالق الإنسان، صانعه، هو جبلةُ يديه وغاية خلقه ويريد الله تحقيق كمال الإنسان. فهدف الله هو كمال الإنسان وليس أن يكون الإنسان سعيدًا، مرتاحًا، مكتفيًا بوضعه الناقص. لذلكَ هو يُعطي الإنسان ما يحتاج إليه لكَمَاله وليس ما يرغبه ليكون مرتاحًا راضيًا بذاته.
إنّ الإنسان هو ضعيف وخاطئ وإذا تُرِكَ لذاته لاكتفى بذاته الناقصة وكان مصيره الهلاك. فلا بُدَّ له من مُخَلّص، من إله يساعده لتطوير ذاته الضعيفة ليجعله كاملاً. فالألم هو الذي يجعل الإنسان يتخطّى ذاته ليكتشف ويختبر ما هو أبعد من الذات البشريّة، ما هو في الحياة الإلهيّة من فرح حقيقيّ.
ثانياً: إنّ الغاية النهائيّة للإنسان هي الله، هيَ الكمال بالله والكمال بالمحبّة. يحقّق الله هذه الغاية في الإنسان بإرادة الإنسان الذي هوَ كائن عاقل، مفكّر، يميّز ويختار ويقرّر وهوَ يكوّن ذاته ويرسم مصيره من خلال خياراته وقراراته وإدراكه لسرّ الله وقبوله أو رفضه.
فقط الكائن الحرّ يستطيع أن يحبّ. فبخياراته الحرّة يُعبّر الإنسان عن حُبّه لمَن يُحِبّ عندما يختاره من بين خيارات أخرى. ولا يستطيع الإنسان أن يُدرك الأشياء إلاّ من خلال ما يناقضها: فهو لا يُدرك النور لولا الظلمة، ولا يعرف الفرح لولا الحزن، ولا الراحة لولا التعب، ولا يَعي حتّى لوجود أعضاء جسده إلاّ عندما تتألّم. لا يُدرك الإنسان وجوده إلاّ من خلال ما يناقض هذا الوجود ولا يعرف الحياة إلاّ من خلال الموت. ولا يعي وجود الخير إلاّ من خلال وجود الشّر ولا يُدرك أنّه صالح إلاّ إذا كان الخير هو خيار يقوم به ضدّ الشّر.
إنّ ما يُهلِك الإنسان هو الخطيئة. فالخطيئة هي شرّ مُقَنّع، مخفيّ، أما الألم والعذاب الذي هوَ نتيجة النقص البشري فهو شرّ ظاهر، واضح، ملموس.
كلّ إنسان يعرف عندما يتألّم أنّ هناك خطأ ما. ولا يُدرك الخطيئة المخفيّة بداخله إلاّ من خلال الألم الذي يظهر نتيجة الخطيئة (الشراهة لا تَظهر، إمّا ألم البطن والمرض الذي تُنتجه هو يَظهَر ويكشفها).
الله خالقنا وجابلنا يعرف تمامًا أنّنا لن نلتفت إليه عندما نكتفي بالراحة والسعادة الزائفة الناتجة عن حواسنا ووضعنا الصحّي والنفسيّ السليم، فنظنّ أننا سعداء ونكتفي بذاتنا. ولا نُدرك زيف هذه السعادة إلاّ عندما يهزّنا الألم، عندها نلتفت إلى الله ونسعى للتحرّر من النقص والسعي إلى الكمال والفرح الحقيقيّ الأبديّ الذي في الله وهذا هوَ هدف الله.
نحن نفضّل أشياء كثيرة على الله ولا نلجأ إليه إلاّ عندما لا يعود لدينا شيء أفضل، فنلجأ إليه كآخر حلّ. محبّة الله العظيمة تقبَل هذا رغم أنها تعرفه وهي تقبل أن تكون الحلّ الأخير.
لا تتجلّى الطاعة لله إلاّ بالقدرة على إختياره مقابل كلّ الأشياء الأخرى وخاصّةً عندما نختار طوعًا رغبة الله وإرادته حتى ولو كان خيارًا مؤلمًا وضدّ طبيعتنا البشريّة. فالطاعة بالألم هي التعبير الأقصى عن الحبّ. بالألم نختبر ونعيش بعُمق مفهوم التضحية: أن أختار بين لذّتي الشخصيّة والخير العام الذي يريده الله.
الألم يولّد فينا شعورين: الشفقة والخوف. فالشفقة تنمّي فينا المحبّة والتضامن والخدمة، والخوف يجعلنا نرى ألعابنا الصغيرة التي تعطينا سعادة وهميّة محطّمَة ومكسّرة فنسعى إلى الأعمق والأبعد.
إذا كان الألم مفيدًا فلماذا لا نسعى إليه إذاً؟
الألم ليس جيّدًا بحدّ ذاته بل هوَ شرّ ناتج عن الضعف والنقص البشري والخطيئة. فالله هو مُعطي الخير والشرّير هو معطي الشرّ. هناك الخير البسيط المباشر من الله والخير المركّب الذي ينتج عن تحويل الله الشرّ إلى خير الإنسان.
الصليب هو الحدث الأفضل للبشريّة ولكن بنفس الوقت هو الحدث الأسوأ في البشريّة. يحوّل الله نتائج الشرّ والألم إلى خير وقوّة وشفقة وغفران وفضائل...
يجب أن نفرّق بين المحنة أو الإمتحان والتجربة: الإمتحان يزيدنا قداسة ومعرفة بذاتنا وبالله، أمّا الدخول في التجربة فهو خطيئة.
الألم والخطيئة متلازمان ولن يزول الألم من العالم إلاّ بزوال الخطيئة مهما تطوَّرت العلوم والتقنيات.
من إختبارات ريمون ناضر مع القديس شربل:
"ضعفك حتّى تتغلّب عليه مِش حتّى تتحجّج فيه. ما تسعوا ورا الراحة، الراحة خطر كبير عليكم."
صلاة: يا ربّ خلقتنا لنعيش، خلقتنا بحُبّ كبير لهدف سامي وعظيم. غايتكَ النهائية قداستنا ونحن نتلهّى بأدوات عبورنا فنعبدها وننسى غاية خلقنا. لكنّكَ بقلبكَ الأبويّ المربّي الذي يعرف الأفضل لنا تتركنا أحيانًا في آلامنا وأوجاعنا لأنك تعرف أنّها ستؤول إلى خلاصنا. يا ربّ أنتَ لا تريدنا أن نتألم لكن إن أتى الألم إلى حياتنا، أعطنا أن نقبلهُ ونشاركهُ مع آلام إبنكَ يسوع فيكون لنا سبيل حياة وعبور للقيامة معهُ، وخلاصًا لنفوسنا ونفوس أحبّائنا. لكَ المجد مع إبنك القائم من بين الأموات والرّوح القدُس المقوّي إلى الأبد. آمين.