"قدسوا الزمن يللي إنتو فيه"
مع ريمون ناضر – تموز 2017
إنّ الوقت هوَ أثمن ما في يدنا في هذه الحياة وهوَ أثمن ما نضيّعه ويفلت مِن يدنا في نفس الوقت. وقيمة الإنسان مِن قيمة وقته وكما يملأ الإنسان وقته يكون.
على أضرحة الأموات ونعوشهم نرى أسماءَهم، ثم تاريخ ميلادهم وتاريخ موتهم مفصولين بشحطة صغيرة، هذه الشحطة تختصر كلّ الحياة. فماذا نملأ في هذه الشحطة التي تفصل بين مجيئنا إلى هذا العالم ومغادرتنا لهذه الدنيا؟
كلّ برهة من الزمن هيَ سلّة توضع أمامنا لنملأها من غلالنا ثم تؤخذ منّا إلى غير رجعة حاملة ما قد وضعناه فيها: فإمّا أن تذهب محمّلة غلالاً طيّبة وثمينة أو غلالاً سيئة ورخيصة أو فارغة لا تحمل إلّا القش. إنّ الأشياء التي نملأها في سلالنا هيَ كلّ ما نستطيع أن نقدّمه لقريبنا ولله.
"الإنسان الصالح مِن كنز قلبه الصالح يُخرج الصالحات، والإنسان الشرّير من كنز قلبه الشرّير يُخرج الشرور (متى 12 / 35).
يعطينا الله كلّ يوم 86،400 ثانية لنصرفها ونملأها ولا يبقى منها أي شيء لليوم التالي، فما نملأه منها نربحه وما نتركه فارغاً نخسره، وكما نملأ تلك الثواني تكون. فالقداسة هيَ أن نملأ ثواني عمرنا من الله.
هناك نوعين من الوقت:
- الوقت الزمني
أو وقت الساعة أو الوقت الرقمي وهوَ نفسه عند الجميع دون إستثناء وتشير إليه أدوات قياس الوقت، الساعة والدقيقة والثانية واليوم والشهر والسنة...
- الوقت الحقيقي
الذي هوَ نِسبي حسب الأشخاص والظروف، أي كيف يعيش الإنسان الوقت الزمني. فالوقت لا يمرّ على البشر جميعاً بنفس الطريقة، فالشهر بالنسبة للمرأة الحامل طويل جداً، اليوم في الغربة غير اليوم في الوطن، الدقيقة في الإمتحان غير الدقيقة في الإستراحة، والثانية في المسابقات الرياضيّة غير الثانية في الرحلات.
في الإنتظار والتحرّق يمرّ الوقت بطيئاً جدّاً وفي الفرح والترفيه يمرّ الوقت سريعاً جداً. هذا هوَ الوقت الحقيقي الذي يعيشه الإنسان وهوَ الذي يصنع الإنسان ويكوّنه.
وإستعمال الوقت عند الإنسان مختلف تماماً عن الوقت عند الحيوان، لأنّ هناك هدف أسمى عند الإنسان، بينما لا يعيش الحيوان إلّا الوقت الزمني الذي يمرّ هوَ نفسه دون أي تغيير.
إننا نمضي كلّ وقتنا على ثلاثة أمور:
التفكير - الكلام والتواصل - العمل.
فإذا أردنا تحقيق شيئاً في حياتنا فيجب أن نستعمل وقتنا بما يتناسب مع الهدف الذي نسعى إليه، ونصوّب نحوه كلّ تفكيرنا وكلامنا وأعمالنا (نجاح في العمل، إبداع في الهواية، تأثير في المجتمع، نجاح في العلاقات، شهرة، مال ... الخ). وماذا إذا كان هدفنا هوَ القداسة؟ فتفكيرنا وكلامنا وأعمالنا يجب أن تتوجّه كلّها نحو القداسة ونحوَ الله.
يقول القديس يعقوب في رسالته (يعقوب 4 / 13): "هلمّ الآن أيّها القائلون نذهب اليوم أو غداً إلى هذه المدينة أو تلك وهناك نصرف سنة واحدة ونتاجر ونربح. أنتم الذين لا تعرفون أمر الغد لأنّ ما هي حياتكم؟ إنّها بخار يظهر قليلاً ثم يضمحلّ."
ويقول القديس بولس في أفسس 5 / 15: "فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق، لا كجُهلاء بل كحكماء، مفتدين الوقت لأنّ الأيام شريرة."
إنّ حياتنا ليست سوى بُخار تظهر قليلاً وتختفي بسرعة ولا نعرف أمر الغد فالمهمّ أن نملأ يومنا بأفضل ما عندنا سالكين بالتدقيق كحُكماء وأن نفتدي الوقت كما نفتدي أغلى ما عندنا والفداء هو بذل الذات مِن أجل مَن نُحِبّ كما افتدانا يسوع. فالوقت يستحقّ أن نفتديه لأنّه ثمين جداً ولا يجوز أبداً التضحية به. وإنّ الأيام شريرة أي خدّاعة فالأيام تخدعنا ولا نعرف ماذا تجلب لنا في الغد، فهي تغدرنا بسرعة وتجلب معها ما لا نتوقعه.
نتأمل مَثَل الغني الجاهل (خيرات كثيرة لسنين عديدة ... الليلة تؤخذ نفسك)
مَثَل الوزنات (يا لك من عبد شرّير كسلان).
مَثَل العذارى الحكيمات والجاهلات (أُغلِقَ الباب).
الكسل هو عدوّ الوقت وهوَ الذي يقتل الوقت ويفقدنا أثمن ما لدينا. وبسعي الإنسان إلى الراحة يقع في شباك شيطان الكسل ويهدر وقته مالئاً حياته بالفراغ أو بالموت. وشيطان الكسل يجرّ معه شيطان آخر هو العذر أو الحجّة أو التبرير، فنخلق الأعذار والحجج لكسلنا وإضاعة وقتنا وبذلك نبلغ الفتور الروحي الذي يقول عنه الربّ في الرؤيا، إنه يتقيأه من فمه. والكسل هو باب الشهوات والشرور والأخطر مِن ذلك إنّ الكسل هوَ علامة النقص في المحبّة، فإضاعة الوقت هوَ نقص في المحبّة. فالذي يُحِبّ لا يهدر ثانية من وقته على الذي يحبّه (الأم مثلاً تجاه أولادها).
كيف نُقدّس الزمن إذاً؟
أوّلاً
يجب أن نضع قانوناً روحيّاً نلتزم به، ثمّ قانوناً للعمل وقانوناً للرياضة والإهتمام بنشاطنا ثم قانوناً للثقافة وقانوناً للهوايات والترفيه... ونُنظّم حياتنا تبعاً لهذه القوانين سالكين بالتدقيق كحكماء.
ولعلاج الكسل ومواجهته كي نستطيع تطبيق القوانين بدقة هناك ثلاث أشياء:
التغصّب:
إجبار الذات على القيام بما يجب أن نقوم به لتحقيق أهدافنا وألّا نستسلم للرخاوة، فملكوت الله يُغتصب إغتصاباً.
الرهبة والخوف من يوم المثول أمام الله، وأن نضع نُصبَ أعيُننا ساعة الدينونة.
الغيرة على مشروع الله والإتّقاد بمحبة الله والقريب.
في النهاية
نحن في هذا العالم ولسنا من هذا العالم كما يقول لنا الربّ يسوع. وفي هذا العالم أمور زائلة تؤدي إلى الموت وهناك أمور أبديّة تؤدي إلى الحياة والملكوت. فكلّ لحظة مِن حياتنا نملأها مِن الله تصبح لحظة أبدية، وكلّ لحظة نملأها بالأشياء الزائلة تزول معها. أن نُقدّس زمن حياتنا يعني أن نملأه مِن حضور الله وهذا يعني أن "نُروحِن" كلّ لحظات حياتنا كيفما كنّا نمضيها حتى عندما نأكل أو نشرب أو نتحدّث أو نتواصل فكلّ ما نفعله فلنفعله لمجد الله ولقداستنا.
ونحن نعيش اليوم في عالم مُظلم، فاسد، تنحدر فيه القِيَم والأخلاق وتختفي منه الإنسانيّة والمحبّة وتضمحلّ فيه قيمة الإنسان وتتحطّم فيه العائلات ويتفسّخ الأفراد ويتشتّتون... فلا نهمل إلتزامنا وواجبنا تجاه مجتمعنا ووَطننا، فقداستنا الشخصيّة لا تنفصل عن العمل على تقديس كلّ ما حولنا "وروحنة" كلّ عمل نقوم به لخدمة الإنسان ولمجد الله.
صلاة:
يا شربل يا أبانا القديس إقبلنا عيلتك، إجبلنا جبلتَك، ورافقنا في مسيرتنا إلى قلب الله، علّمنا كيف نسير بخطوات ثابتة على خطى يسوع، كما سِرتَ أنتَ، علّمنا كيف نجاهد مثلكَ كلّ يوم فنعرف الكنز ولا نعود نلتفت إلى الوراء، فنكسب ونربح وننتصر كما أنتَ فعلت، فنُسبّح معك الله الآب والإبن والروح القدس الى الأبد. آمين.