مريم
لقاء عيلة مار شربل بتاريخ 1-5-2019 في كنيسة مار شربل - أدونيس
لمشاهدة الفيديو: https://youtu.be/pEVFrr1PLIY
نصل إلى شهر أيّار وهو نوّار أي شهر النور الذي يطلّ علينا بعد عتم الشتاء. ويطلّ علينا أيضًا بنور أمنا مريم التي تكرّمها الكنيسة في هذا الشهر المبارك.
نحن نعيش اليوم في عالم ينحدر بسبب التباعد بين القِيَم السماويّة والواقع الذي نعيشه. وفي قلب هذا الواقع، تبقى مريم القيمة الكبيرة في حياتنا. في قربنا منها نشعر بقيمة الحياة وفي بُعدنا عنها نشعر بقساوة الحياة.
لمريم دور مهمّ في حياتنا. من هيَ مريم وما هو دورها في حياة الكنيسة وحياتنا وماذا تعلّمنا؟
مريم هي الرمز الحقيقي للأمّ. وللأسف نرى تباعدًا بين صورة أمهات اليوم وصورة مريم التي يريدها الرب لكلّ أمّ. صورة مريم ثابتة في التاريخ ولا تتغيّر كالموضة لأن مريم ثابتة مع صليب المسيح على محور الكون.
فهذا الكون كلّه يَعمَل ويُحَضِّر ليكون هناك أمّ عبر ثلاثة أمور:
- جوهر الأجيال: هناك مسارٌ لهذا الكون. القِيَم تنتقل من جيل إلى جيل، جيل يُسَلِّم جيلاً آخرًا. فمِن خلال العلاقة الحميمة التي تربط بين الوالد والمولود، وخاصّةً بين الأمّ والولد، يُحَضّر الجوهر الكوني المرأة لتكون أمًّا.
- الإهتمام بالأصغر: هذا عامل يزرعه الله في قلب الإنسان فيجعله يهتمّ بالصغير ليُؤمّن له حاجاته. الجيل الأكبر يهتمّ بالأصغر.
- القيمة الفرديّة: الإنسان ليس فردًا بل شخصًا. الفرد نستبدله، أمّا الشخص فهو فريدٌ لا يُستبدل. كلّ إنسان له شخصيّته، كيانه، فرادته وكرامته. البشرية تسعى للمحافظة على الشخص ولا على النوع، والأمّ هي أكثر مَن يَعِي هذه الحقيقة وخاصة بفضل العلاقة الحميمة التي لا تُدرَك بين الأم والولد.
عبر هذه الأمور، الكون يكون قد حضّر المواد لتكون الأمّ. يضيف إليها الحبّ لتكتمل التحضيرات. الحبّ يتمثل بشكل كبير بالأمّ. هو فِعل قبول حرّ وبإرادة حرّة وليس بالغريزة للمحافظة على النوع. بإرادتها الحرّة تصبحُ المرأة أمًّا وتحمل شخصًا في داخلها.
في قلب هذا الواقع، ظهَرَت أمٌ غريبة، وبفعل إرادة حرّة قالت نَعَم لله. كلّ الكون كان يحضّر هذه "النَعَم" التي ستقولها مريم لله. طلبَ الله منها جسدًا، فقالت: "فليكُن لي بحسب قولك". فكانت "الأمّ" بإمتياز. قالت: "لِيَكُن" أو "Fiat" باللغة اللاتينيّة. وهذه ال "Fiat" نجدُها في ثلاث محطات مهمة وأساسية في مسار الكون:
- في عملية الخلق: "ليكن نور"
- في البشارة: "ليَكن لي بحسب قولك"
- في بستان الزيتون: "لتكن مشيئتك"
إذاً، مَن هي مريم التي كان كلّ الكون يُحَضّر لِأمومَتِها؟ مريم هي حلم، هي أمّ وهي عروس.
- مريم هي حلم الله: خلق الله الجنّة، المكان الأجمل الذي يمكن أن يكون فيه الإنسان، وخلق أجمل مخلوقين آدم وحواء ووَضَعَهُما فيها. وكانت السقطة في الخطيئة، بعد أن فتَحَت حَوّاء حِوَارًا مَع الشيطان. وخَسِرَ الإنسان هذا الحلم الذي هوَ الجَنّة.
لكن لدى الله حُلم: خَلَقَ جَنّة جَديدة ووَضَعَ فيها آدم الجَديد، ليُصلِحَ ما أفسَدَهُ آدَم الأوّل. وهذه الجنة هي مريم. لذلك مريم هي حلمُ الله.
قرّرَ الله أن يولدَ من إمرَاة، فاختارَ له أجمل خَلقِه. رَسَمَ هذه الجَنّة في فِكرِهِ ومن ثمّ أوجَدَها.
- -مريم هي الأمّ: رَبَّت إلهُ الكَون وحَمَلَت بين ذراعَيها مُزيّحَ الأكوان. السماء كانت بين يَديّ مريم. هذه الأمّ عاشَت إختبارات قويّة جدّاً: من الحضور الرهيب للملاك في البشارة، إلى صمتها أمام حيرة يوسف واتّكالها على الله، إلى سماعها في التقدمة نبوءة سمعان الشيخ بالسيف الكبير الذي سَيَجوزُ في قلبها، إلى هروبها الى مصر... وإلى إتّباعها حياة يسوع ومواكبته من مكان إلى آخر.
عاشت مريم أحداثًا قويّة وإختبارات عنيفة وكانت تختبر مشروع الله الخلاصيّ. كانت مريم تواكب كل هذه الأحداث بالصلاة والمحبة.
- مريم هي العروس: في عرس قانا، انتبهت مريم إلى النقص :"ليسَ لديهم خمر" أي "ليسَ لديهم فرَح". وكانَ جوابُ يسوع:"ما لي ولك يا إمرأة؟ لم تأتِ ساعتي بعد". الساعة في إنجيل يوحنا، هيَ الساعة التي سيتمجَّد فيها يسوع على الصليب. نادى يسوع مريم "يا امرأة"، وليس "أمي"، فهي منذ هذه اللحظة أصبحت "الأمّ": أمّ البشرية. هي حوّاء الجديدة التي من خلالها سيُصلِح البشريّة.
ولما أتت الساعة، ويسوع معلقًا على الصليب، كانت مريم ويوحنا على أقدام الصليب. الكلّ يتكلّم وفي ضجيج، أمّا مريم فكانت في صمت، تصلّي لتستطيع مواكبة عمل الله الخلاصي. في عرس قانا حوّل يسوع الماء إلى خمر، وهنا على الصّليب، حوّل دمه إلى خمرة ستعطي الفرح للبشرية. يسوع، آدم الجَديد هوَ العَريس، ومَريَم، المرأة الجديدة هي العروس: علاقة تشبه علاقة الله مع شعبه في العهد القديم. وهنا كانت إنطلاقة الكنيسة التي هيَ شعبُ الله الجديد المُمَثل بمريم. هذا هو عُرسُ الصليب الذي تمّ بقيامة يسوع.
ماذا تعلّمنا مريم اليوم؟:
مريم هي المثال لكل صبيّة كما يسوع هو المثال لكل شاب.
فعند مريم صفات على كل صبيّة أن تقتدي بها: أوّلها الصلاة والمحبة اللتان هما شرطان لدخول الملكوت.
اليوم، على كل صبيّة أن تسأل نفسها: أنا مَن أُشبه؟ مريم؟ أم حوّاء؟
إذا كانَ الجوابُ "حوّاء" فلتنتبه فهي في حوار مع الشيطان. وإذا كان الجواب "مريم"، فلتَجتَهد للمحافظة على الصلاة والمحبّة في حياتها. فصورة مريم صارت نادرة في أيامنا.
نحن شرقيون متّقدون بالعواطف، فيا أيّتها الصبيّة تمسّكي بأنوثتك، لا تتشبّهي بالرجال، فأنتِ جميلة كما أنتِ، بحنانك وعاطفتك وأنوثتك. وبالمقابل أيّها الشاب لا تتّجِه نحوَ الأنوثة، كُن رجلاً قويًّا بشخصيّتك، بحضورك وبكلّ ما خلقك الله... فلا تشّوهوا صورة الله فيكم.
فلنتأمل بمريم، نتأمل بحياتها، بصَبرها، بصَمتِها، برَدّات فِعلها، بخدمَتها، بصلاتها، وبمحبتها. هي مثالنا في الأمس، اليوم، الغد وإلى الأبد. فكلّما نتأمّل بها، نصبح شبيهين بها.
ولنحافظ على إحدى التقاليد الأساسية في حياتنا وهي صلاة المسبحة التي استخدَمها جميع القديسون مدى التاريخ. هذه الصلاة علينا إختبارها وإكتشاف فعاليّتها الكبيرة.
لنتّخذ مريم أمًّا لنا فنصبح إخوة لبعضنا البعض، كلّنا على مختلف إنتماءاتنا... بقدر ما الولد مهمّ عند أمّه، وبقدر ما الأمّ تضحّي وتخدم أولادها وتتألم معهم، فكيف بالحري الأمر مع مريم وإنما بصورة إلهيّة أسمى.
لا نخف مِن أن نُحِبّ مريم، فلن نحِبَّها أبداً أكثر ممّا أحبّها يسوع. الله لا ينافس مريم على محبتنا، فمحبتنا لمريم لن تُنقِص من محبتنا ليسوع. فنحن نُحبّ يسوع من كلّ قلبِنا ونفسنا وقوّتنا، ونُحبّ مريم أمه أيضاً.