فرح الانتماء الى المسيح - مع المونسنيور يوسف سويف
الجمعة 26 تشرين الأول 2001
عيلة مار شربل عنايا
لقاء مع المونسنيور يوسف سويف
"أنا الكرمة وأنتم الأغصان: من يثبت فيَّ وأنا فيه يثمر كثيراً"
باسم الآب والإبن والروح القدس الإله الواحد، آمين.
يدخل هذا العنوان في سياق السنة الآولى للألفية الثالثة وكأنّنا في هذا المطلع نبدأ مسيرتنا الإيـمانية مع يسوع المسيح ونحن مدعوون كجماعة معمّديـن أن نجدّد بادئا ذي بدء انتماءنا الى هذا المسيح الذي سبق وانتمينا اليه في المعمودية التي تعود جذورها الى حيث الموت والقيامة.
انّ طبيعة هذا الانتماء هي الفرح لأنّ مصدره هو القيامة. فالقيامة هي أساس حياة الكنيسة وركيزة اختبارها وهي في سيرها الى الملكوت. ونحن كمسيحيين لا يـمكننا أن نكون الاّ أبناء القيامة أي الفرح: "هذا هو اليوم الذي صنعه الرّب تعالوا نُسرُّ ونفرحُ فيه".
القيامة هي التي مـحت وتـمحو الـحزن من العالم، والألم والصليب وكلّ أنواع الموت الذي ما زال الانسان يختبرها في صلب حياته اليومية التي لا تتناقض مع القيامة بل اذا اقترنت بـحياة المسيح تكون مدخلاً اليـها وغوصاً في أسرارها. فمن ينتمي الى المسيح هو الشاهد الفارح لقيامة المسيح في العالم.
فمع اطلالة الثالث نحن نبدأ مسيرتنا الإيـمانية – القيامة بفرح لكنّه الفرح المسيحي والفرح مع المسيح المغاير لفرح العالم المزيّف والزائـل. انّ فرح المسيح يـمنح السلام القلبـي والطمأنينـة الداخلية واستقرار النفس ويُعطي المعنى الجوهري للوجود ويـجعلك تتوجّه نحو الـهدف دون أن تتلهّى بقشور العيش فتلج الى جوهر الـموضوع وجوهره هو أن تكون شاهداً لـهذه الـمحبّة الكبرى التي أحبّنا بـها الآب بابنه المسيح وهي تتجدّد فينا بروحه الـمحبّ والـمُحيي.
السؤال الأساسي الذي يطرح على ذاتنا الكنسية والجماعية والفردية ونحن "نبدأ" المشوار مع الفادي هو الأكثر الحاحاً اليوم أعنـي: "الانتماء". فاذا أردنا أن نضع اصبعنا على الجرح ونحدّد الـمشكلة الإيـمانية في عالمنا المعاصر ونوسّعـها لتطال أسئلة كنسيّة وراعوية واجتماعية ووطنية، نرى أنّ السؤال الأهمّ يطرح حول "الانتماء". المشكلة الكبرى هي عدم الـحسّ الجماعي والفردي بالانتماء على مستوى الذات البشرية مروراً بالانتماء العائلي فالانتماء الى الجماعة الرعائية ومنـها الى الكنيسة الـمحلية والـجماعة بالاضافة الى البعد الإنسانـي الذي يـجعلني أشعر بالانتماء الى الـمجتمع البشري المدنـي على أساس الخير العام فإلى انتمائـي أنا كمعمّد إلى المسيح الذي يعطي كلّ المعنى لأنواع الانتماء التي ذكرتـها.
1. الانتماء الى الذات
من هنا أبدأ وهنا تكمن المشاكل التي تتجلّى لاحقاً بأشكال متنوعة في الاختبارات الإنسانية وهنا يعود الانسان إلى ذاته البشرية إلى شخصيته وتاريخ نـموّها وتطورّها والمراحل العديدة التي مرّت بـها هذه الشخصية. الكلّ يحمل جراحات في داخله لكنّ المسألة نسبية: من الناس من نـمَوا في مناخ من الحبّ الحقيقي فأحبّوا واستطاعوا أن يحبوّا ومنـهم من حُرِمَ من هذا الحبّ فتكاثرت فيـهم الجراح. إنّ الانتماء إلى الذات هو عملية اكتشاف هذا الحبّ الذي يبني ويـخلق شخيصيّة إنسانية واجتماعية متوازنة وإيـجابية ومساهمة في تطوّر البشرية، وعند حدود الانقسام على الذات وجب عيش اختبار الـمصالحة الذاتية حتّى يستطيع الإنسان أن يخاطب الآخرين. فاذا كنتُ لا أستطيع أن أنسجم مع ذاتـي كيف يـمكنني أن أتواصل مع الآخرين ؟
هذا مشروع نفسي وتربوي يتطلّب وعياً وتضامناً واستدراكاً في سنّ مبكرة مع كلّ إمكانيات التغييـر التي يمكن أن تحدث للإنسان بـمساعدة نوع البيئة التي يقرّر أن ينتمي إليـها .
2 الانتماء الى العائلة والمجتمع البشري
هنا يكمن البعد الانسانـي والاجتماعي للحياة، فالعائلة هي المجتمع الصغير الأول الذي يتواجد فيه الإنسان وفيه يكتسب ومنه يطلّ على الحياة. العائلة هي المدرسة الأولى والأهل همّ الـمربّون الـمباشرون للأولاد. وهنا يتنشأ الإنسان على مفهوم الانتماء إلى الجماعة حيث يكتشف الآخر والمُغاير والمتنوّع والمختلف، مع كلّ هذا الاختلاف يكون هناك عائلة أيّ رابطـة أيّ علاقة حبّ تربط كلّ أفراد البيت. ينمو حسّ الانتماء إلى العائلة بقدر ما تـخلق العائلة مناخات واحترام وتوازن وتجسيد قيم إنسانية وروحية. والاّ مالَ الفرد إلى الـهروب من مجتمع بدل أن يـحبّه يعامله بروح الكراهية والعدائية. بقدر ما نرى أهلاً واعين إلى رسالتـهم من خلال حضورهم ومثلـهم وأيضاً تجسيدهم حياة الإيـمان بقدر ما نـحصل على بيوت ثابتة في الـمجتمع المدنـي وأيضاً الكنسي مـمّا يرغّب في الانتماء الى هذا البيت والعكس هو الصحيح. والعائلة تتعرّض للتفكّك لأنّـها لـم تعد واحـة الدفء والـحنان والسلام بل مجرّد غرف للنوم وتأمين الـحاجيات الـجسدية والعملية. غياب الـحوار والمصارحة اللذان يؤديان إلى التواصل والتفاعل يهدّد أكثر فأكثر البيت ومنه الـمجتمع المدنـي.
العائلة هي "كنيسة صغرى" فما مدى إذاً الوعي الإيـمانـي اليوم في عيالنا إن على مستوى الممارسات الدينيية (قدّاس – صلوات عائلية...) أو على مستوى عيش القيم الإنـجيلية والوصايا في الحياة اليومية. ما هو مدى المعرفة والثقافة المسيحية في عـيالنا اليوم؟
من جـهة ثانية نرى أنّ الشـهادة المسيحيّة متواصلة في اختبار الايـمان وعيش القداسة ومن خلال أنـماط التكرّس المسيحي المتعدّدة، بفضل تلك العائلات التي ما زالت تُحافظ وتُنمّي الإيـمان المسيحي ومعـها تنمو رسالة الكنيسة في العالـم.
اذا أردنا أن نلقي الضوء على حسّ الانتماء الى الـمجتمع البشري نرى أن أسئلة عديدة تُطرح في هذا الـمضمار. يكفي أن نبدأ أولاً بكلّ ما يسمّى التربية المدنية وكيفيّة تعامل الناس مع بعضـها البعض في الـمسائل الصغرى والكبرى.
ونتساءل هنا عن نواحٍ تطال الأخوّة أوسع من نطاق البيت والـمجتمع الصغير إلى معنى الانفتاح على الآخر وقبوله على اختلاف دينـه ومعتقده لا سيّما في إطار الـمجتمع اللبنانـي المميّز بـهذه التعدديّة، فإلى موضوع الديـمقراطية وكيفية مـمارستـها إلى مسألة حريّة الشخص البشري وحقوق الإنسان وحقّ الفرد في عيشٍ حرّ ولائـق وكريـم الى موضوع تقاسم خبرات الأرض بـمساواة على الجميع إلى التعليم وحقّ إيـجاد فرص عمل ومنها إلى نـزيف الـهجرة وكلّ هذا في طرح النظام السياسي والاقتصادي على الـمحكّ خاصةً في لبنان الذي عانـى ما يكفي في فترة الحرب الأخيرة. ماذا جـمع اللبنانيون للاستفادة من هذه الـحقبة وكيف قُيِّمت من أجل بناء وطن لـجميع أبنائه، انّ الكلّ ينتمي إليه بفرح وفخر فـهل من انتماء حقيقي لـمجتمعنا المدنـي ومنه الى الوطن؟ على أيّة أسس يبنى لبنان وهل هناك فعلاً بنى تـحتيّة وفكريـّة وثقافيـّة وإنسانيّة يتمّ البناء على أساسـها والـمبدأ الأفضل في هذه الورشة يبدأ من طرح السؤال على الذات قبل أن أوجهه للآخر. كلّ هذا يقتضي برنامـجاً تربوياً بتعاون الكلّ على وضعه بحيث أنّـهم يتشاركون في تطبيقه لتنمية حسّ الانتماء الى الـمجتمع من أجل نـمو حقيقي وواعٍ للإنسان .
3 الانتماء الى الكنيسة
في اطار الانتماء يطرح السؤال على المستوى الإيـمانـي في أهمية الوعي للانتماء الى الكنيسة. من هنا نلقي الضوء على مفهوم الإيـمان المسيحي وكيفية عيشه. من السهل أن يعيش كلّ مؤمن إيـمانه على طريقته وببعد فرديّ انطلاقاً من مبدأ أن الإيـمان هو مسألة فرديّة خاصّة. انّه مفهوم مـجتزأ وأحياناً يبدو متناقضاً مع الـحياة الـمسيحيّة التي هيَ في أساسـها "جـماعة".
لقد أسّس السيّد المسيح كنيسة أيّ جـماعة الـمؤمنين. والفرد بعماده انتمى إلى الكنيسة وأصبح عضواً في جسد المسيح السريّ وغصناً في الكرمة. فالانتماء إلى الكنيسة يعني أن أسير على طريق الإيـمان وفق تعاليم الكنيسة الواحدة الـجامعة المقدّسة الرسولية وهذا القبول يكون كاملاً وغير مجـتزأ أيّ أنّي أقبل ما يناسبني وأرفض ما يزعجنـي ويتناقض مع تفكيري الـخاصّ.
هناك نوع من ارتقاء ونـموّ في الـمسيرة الإيـمانية للوصول إلى تناغـم مع موقف الكنيسة.
هذا الانتماء الكنسي ببعده الواسع يتجسّد بـمساهمتي في رسالة الكنيسة الـمثلثة الأبعاد وهي: الرسالة النبويّة والملوكيّة والكهنوتيّة التي عاشـها المسيح أمام كنيسته ومن أجلـها. وهذا التحقيق يتمّ في الكنيسة الـمحليّة وهيَ الوطن أو الأبرشية التي يرأسـها الأسقف. فحيث الأسقف هناك الكنيسة. والأسقف هو امـتداد وتواصل لرسالة الرسل في العالـم. فهو يـحتفل بالافخارستيا ويشـهد للمحبّة ويكون صوت الـحقّ في نشر تعاليم الإنـجيل والكنيسة في العالـم ومنه تنبعث رسالة كلّ كاهن في الرعية وكلّ علمانـي في حضوره في الـمجتمع الـمدنـي.
وبطريقة مباشرة هذا الانتـماء يُعاش يومـيّاً وبعمق والـتزام في الرعيّة وهي الكنيسة الصُغرى حيث ينمو الإنسان في الـخلاص ويشـهد له بين جـماعة الاخوة. "فمن يفرح ولا أفرح أنا ومن يبكي ولا أبكي أنا". هذا هو التضامن الروحي والإنسانـي الذي تعيشه الرعية فتكون كنيسة. فالرعيّة والكاهن ليسا دائرة تصريف معاملات بل أولاً هم "جـماعة مـحبّة" ولكلّ عضوٍ دوره في الـجماعة الرعوية وعلى الكاهن أن يعي وينمّي موهبة "كل" الأعضاء وعلى أبناء الرعيّة أيضاً أن يأخذوا المبادرة في تقديـم ذواتـهم ومواهبـهم ووقتـهم لـخدمة الـجماعة: أولاً روحيّاً وثانياًّ اجتماعياًّ وثقافياًّ وفي كلّ الـميادين. انّ الرعية هي الـهدف الأساسي من كلّ النشاطات الكنسيّة والرسولية والاجتماعية وعلينا اليوم أن نُعيد النظر في كيفية العمل الرعوي لنرى اذا كان يـخدم الـجماعة الرعائية أم يفقّرها.
فالعمل الرسولي الأبرشي يـهدف أولاً الى خلق نواة رعويّة تساعد الكاهن في خدمته على مدار السنة. انّـها فرصة لتنشئة الكوادر التي تضمن المتابعة والاستمرارية مع خادم الرعية. وثانياًّ هي فرصة للتعليم وكـم نحن بـحاجة إلى تجديد مبادىء التعليم المسيحيّ للبالغين .
بشكلٍ عامّ نحن كمسيحيين حلّقنا اليوم في العلوم والثقافة العالمية وما زلنا في أول درجات الثقافة المسيحية. لذا يُعاش الإيـمان اليوم وبشكل اجـمالي بطريقة عاطفية متوارثة وتُمارَس العبادات بشكل غير واع. كم من المسيحيين اليوم يعرفون الكتاب المقدّس معرفة شخصيّة عميقة؟ وكم نعرف فعلاً معنى العقائد المسيحيّة؟ وكم نعرف تاريـخنا الكنسيّ؟ ونحن الموارنة كم نعرف تاريخ كنيستنا المارونية بارتباطه بالكنيسة السريانية الأنطاكية؟
كلّ هذا يتطلب عملاً جاداً من قِبل الجميع إكليروساً وعلمانيين واذا أردنا أن نتوقف على لفظ: كنيسة فماذا يعني هذا اللفظ الى غالبية المسيحيين. أول ما يتبادر للنص هو الإكليروس وهنا ينتـهي المفهوم وننسى أنّ الكنيسة هي شعب الله المؤلف من إكليروس وأيضاً من علمانييّن لـهم دورهم ومكانتـهم في الـخدمة الكنسيّة والـجميع مدعووّن الى تجديد انتماءهم اليـها وعبر الكنيسة يتمّ الانتماء الى المسيح.
4. الانتماء الى المسيح
كلّ أنواع الانتماءات التي أوردناها تأخذ معناها الـحقيقي وتتحقَق من خلال انتماء المعمّد الى المسيح. هذا يعني أنّ المسيح يصبح الألف والياء في حياة المؤمن والبداية والنـهاية وحجر الزاوية ورأس البنيان. الانتماء إلى المسيح يعني أن تكون غصناً متّحداً بالكرمة فاذا انفصلت عنـها تيبس فتُقطع وتُلقى في النار. انّه الاتّحاد بالمسيح الذي يـمنحك الحياة الجديدة.
المؤمن يتّحد بالمسيح في عمل غاية في الأهمية ألا وهو اللقاء الفصحي أعني القدّاس. ذبيحة الإفخارستيا، وليمة الشكر التي من خلالـها تتجلّى محبّة الله الثالوث للعالـم وفيـها يشترك المؤمن بمائدة جسد ودم المسيح عربون الحياة.
ويصير الانتماء الى المسيح من خلال كلمته التي هي روح وحياة. فمع الكلمة الإلـهي تـخلق صداقة وهي التي تحدث التغيير الجذري في حياة الإنسان وتبدّل حياته بطريقة دائمة من الصحراء إلى مراعي الحياة الخصبة، معـها يتمّ العبور من العبودية إلى حريّة أبناء الله، فيـها يتحقّق الفصح – العبور من الموت إلى الحياة فكلامه هو روح وحياة. الانتماء إلى المسيح يتحقّق داخل الكنيسة عروسه وجسده وهنا تطال البعد الإنسانـي وتكتشف أهـمية الـخدمة – الدياكونيية: خدمة الـمحتاج والـمريض والـمسجون وكلّ فئات الناس المتألـمة والـمهمّشة والمنبوذة والـمحرومة والـمجروحة ففيهم أكثر من غيرهم تلاقي وجه المسيح. وهنا نطرح السؤال على ضميرنا الكنسي: مع أيّة فئة نتعاطى أكثر في رسالتنا؟ هل نقبل بارتياح هذه الفئات الضعيفة أم نـميل تلقائياًّ نـحو القوية؟ أكنيسة الـمسيح هي كنيسة الأقوياء والذين يظهرون بالمظاهر اللائقة وذوي الأوضاع الـجيّدة والذين بدون مشاكل. كنيسة المسيح هي جسده الذي يـحتوي كلّ الأعضاء والكلّ يصبحون قلباً واحداً وجسداً واحداً برباط الـمحبّة. فأنا أنتمي إلى المسيح من خلال أعضائـه.
اختيار الصلاة الفردية والـجماعية هو من أجـمل الأوقات التي يـجدّد فيـها المؤمن انتماءه إلى المسيح. الصلاة بكلّ أشكالـها العقلية والقلبيّة التي تُخاطب الحبيب وتحثّ فيه فيرفعـها إليه ومنه وبه إلى الآب وتنتعش بروحه القدّوس.
مريـم هي أنـموذج قويّ وحيّ بالانتماء الى المسيح ابنـها ومخلّص العالـم. انتمت إليه في بيت لـحم وفي مصر وفي الناصرة وفي الـجليل وفي كفرناحوم وفي أورشليم على أقدام الصليب وفي القبر وفي اليوم الأول من الأسبوع حين تـمجّدت بقيامته.
آمين.