إختارنا قبل إنشاء العالم
"إختارنا قبل إنشاء العالم" أف 1 / 4
مع ريمون ناضر
"تبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح الذي باركنا بكلّ بركةٍ روحيّة في السماوات في المسيح، كما اختارنا قبل إنشاء العالم لنكون قديسين أمامه بلا عيب بالمحبّة."
أف 1/ 3-4
هذه من أجمل آيات الكتاب المقدّس التي كتبها القديس بولس إلى أهل أفسس فيها يشرح لنا بطريقة رائعة مقصد الله مِن خلق الإنسان وهدَف وجوده كلّه.
لقد كان الإنسان، كلّ واحد منّا، في فكر الله وتصميمه قبلَ إنشاء أساسات هذا الكون. فكلّ واحدٍ منّا هو مشروع الله خلقنا واختارنا بالمسيح يسوع لنكونَ قديسين بلا عيب بالمحبّة. كما خلق الله الكون بكلمتِه يسوع المسيح، هكذا اختارنا بهِ أيضاً لنكون قدّيسين أمامَه بلا عيبٍ بالمحبّة. والله حقّق مشروعه هذا بتجسّد الإبن يسوع وما زال يتمّمهُ بعمل الروح القدس فينا.
من هوَ هذا الله الذي خلقنا لنكون قدّيسين وهوَ يُخلّصنا ويُقدّسنا لنكون أمامه بلا عيب بالمحبّة؟ الله هوَ ثالوث. هوَ ثالوث من الأزل وإلى الأبد. هوَ الكائن، الذي هوَ، كما عرّف عن نفسه لموسى. هوَ خارج المكان والزمان.
هناك خطأ شائع يرتكبهُ النّاس عندما يسألون مَن كان قبل الله؟ إنّ الله خلق الزمان، خلق الوقت وهوَ خارجهُ. لا يكون الخالق أبداً جزء مِن خلقِه بل هوَ خارجه لذلك الله الذي خلقَ المكان والزمان، هوَ خارجهما.
في عالمنا هناك أمس واليوم وغداً لأنّنا في الزمن. أمّا عند الله فلا وجود للزمن فلا شيء قبله ولا شيء بعده فهوَ كائن سرمدي خارج الوقت، لا أمس ولا اليوم ولا غَدْ عنده. منذ الأزل هو ثالوث آب وإبن وروح قدس كما كشفه لنا الربّ يسوع. وهو إله واحد، طبيعة واحدة وجوهر واحد بثلاثة أقانيم، وكلمة أقنوم تعني باليونانيّة Hypostasis أي مكوّن أساسي لا يكون الكيان بدونه. فلا ثالوث بدون الآب أو الإبن أو الروح القدس. وهوَ سرّ غريب عجيب فوق طاقة أو إدراك الإنسان. ولكن الآباء أعطونا تشبيهات كثيرة لكي يقرّبوا صورة الله إلى عقل الإنسان، كما كان يفعل يسوع عندما كان يكلّمنا بالأمثال.
إحدى التشبيهات التي أعطانا إيّاها الآباء هيَ الشمس. هي تشبيه لا يُعطي الصورة الحقيقيّة لكنّه يقرّبها لعقلنا.
إنّ الشمس هيَ القرص أو النجم وهي النّور وهي الحرارة في نفس الوقت. لا نستطيع فصل قرص الشمس عن نورِه وحرارته ولكن القرص شيء، والنور شيء، والحرارة شيء آخر ولكنّهم واحداً. لا يستطيع الإنسان التعامل مباشرةً مع قرص الشمس بل يتعامل مع نورها وحرارتها.
يُشبَّه قرص الشمس لله الآب الذي "لم يره إنسانٌ قط وبقي حيّاً" كما يقول الكتاب. نور هو المسيح الذي تجسّد ورأيناه ولا زلنا نراه في القربان. والحرارة هو الروح القدس الذي تشعر به وبمفاعيله. لم يقل لنا يسوع إذهبوا وعمّدوا بأسماء الآب والإبن والروح القدس بل بإسم الآب والإبن والروح القدس: إسمٌ واحد، إله واحد.
لقد أراد لنا الله الثالوث أن نكون قدّيسين بلا عيب، أي أن نكون ممتلئين من الحياة بالله بالمحبّة. يَخلط النّاس عادةً بين الحركة والحياة ويربطونهما بِبعضهما. وعادة ما تُنسب الحياة إلى الحركة عندما ترى شيء يتحرّك تقول إنّه حيّ. ولكن الحياة تعني أن تكون الحركة آنية في داخل الشيء الحيّ. فالحجر الذي يتدحرج ليس فيه حياة في داخله وهوَ ليس حيّ. تُوجد حياة داخليّة في النبات تجعله يزهر ويبذر وينمو ويُثمر. في الحيوان حياة داخليّة تجعله يتحرّك ويتفاعل مع محيطه مِن خلال حواسه. الإنسان لديه كلّ مزايا الحيوان ولكن يُضاف إليها الفكر والإرادة أي المعرفة والحبّ.
إنّ العقل البشري يُولّد الأفكار، وعندما يُولّد العقل الفكرة فهذه الفكرة لا تنفصل عنه مثلما تنفصل الثمرة عن الشجرة أو الجنين من بطن أمّه. الفكرة تبقى داخل العقل هي ليست العقل وهي متميّزة عن العقل ولكنّها تبقى في العقل، أنا أبحثُ عن أفكاري داخل عقلي وإذا كتبت أفكاري تصبح موجودة في كتاب وتنتقل إلى عقل آخر ولكنّها تبقى في عقلي.
الله هوَ الحياة الكاملة أي ملء الحياة يعني الحياة الداخليّة الكاملة. إنّ عقلنا يُفكّر ويُحبّ والله يُفكّر ويُحبّ، إنّ فِكر الله أو كلمته هي فيه ولكنّها متميّزة عنه. لدى الله فِكر واحد وكلمة واحدة تختصر كلّ ما في الوجود وكلّ ما هوَ معلوم وغير معلوم، المعرفة كلّها في كلمة الله: يسوع، الإبن الذي به كان كلّ شيء. وكما يولّد العقل الكلمة، هكذا ولد الآب الإبن. بدل أن نسمّي الله "المُفكّر" أو "مُولّد الفكر" ونسمّي فكره "فكر" أو "كلمة" سمّاهم يسوع الآب والإبن، فالكلمة التي أصبحت بشراً نسمّيها الإبن: الإله الذي أصبح إنساناً، إبن الله أصبح إبن الإنسان وهو يسوع المسيح ربّنا.
نحن لا نفكّر فقط بل نحبّ أيضاً. الحُبّ هوَ علاقة: هوَ حركة نحو الحبيب لنتّحد به. الحُبّ ليس شيئاً فيّ وليس شيئاً في الحبيب بل شيء سرّي يجمعنا سويّة معاً. الحُبّ هو شيء يَجمع ويُوحّد، هوَ شيء متميّز عن الفكر وينبثق مِن الفكر ومِن المفكّر.
هوَ شيء لا نستطيع التعبير عنه أو وضعه في كلام فنعبّر عنه "بالريح" أو "الزفير" لذلك نصنعه بالروح أي الريح أو "التنهّد" الذي يخرج من الإنسان فيعبّر عن حبّه. الحبّ بين الآب والإبن والإتّحاد بين الآب والإبن يُعبَّر عنهم بالروح القدس. كما إنّي أنا موجود وأفكّر وأحبّ كذلك هوَ كيان الله ولكنّه متناهي ولا حدود له.
كيان الله هوَ كيان لا محدود من الحُبّ والحقّ والحياة.
الآب هوَ الحياة والإبن هوَ الحقّ والروح القدس هوَ الحبّ.
(ألحاءات الثلاثة): (حياة، حَقّ، حُبّ).
الله الثالوث أرادنا أن نكون قدّيسين بلا عيب بالمحبّة لنكون أبناءً لهُ بالمسيح يسوع بواسطة الروح القدس وندخل معه بشركة الحبّ الإلهي والحياة الأبديّة.
الذي يقف في وجه هذا الخيار هوَ الكبرياء الذي يملأ الإنسان مِن نفسه فيؤلّه ذاته ويضع نفسه مكان الله في مشروع وخيار خاص به.
لقد وصلنا اليوم إلى عالم المعلومات Information ولكن أصبحت تنقصنا الحكمة التي تضعنا في مشروع الله. أصحاب المعلومات اليوم يوهمون النّاس بأنّ قيمتهم هي بكميّة المعلومات التي يملكونها، معتقدين أنّ المعرفة هيَ بالمعلومات وذلك خطأ كبير لأنّ المعرفة هيَ معرفة الحقّ بواسطة الحكمة والتواضع الذي يجعل الإنسان يَعرف أنّه مهما عرف فهوَ لا يعرف شيئاً.
فخلاص الإنسان وقداسته بتواضعه وقبوله مشروع الله حتّى لو لم يكن يفهمه أحياناً وخاصةً عند الألم والمِحَن والمعاناة. كما حصَلَ مع أيّوب ذلك الإنسان البار الذي كانَ يعيش بإيمان وبمخافة الله ثمَّ بدأ يخسر كلّ شيء: أملاكه ثمّ أولاده ثمّ صحّته ثمّ أخيراً حُبّ ودعم زوجته. لم يبقَ لهُ سوى شيئين: هوَ والله.
ثمّ بدأ أيّوب يتساءل ويشتكي ويُعاتب: لماذا ولدتني أمّي؟ لماذا لم يُقفل رحمها بوجهي؟ لماذا وُلِدتُ؟ لماذا خرجتُ إلى العالم؟ ليتني لم أولَد... ثمّ جاء إليه "أليهو" وكلّمه بكلام حكمة ثمّ تكلّم الربّ لأيوب: وضع الله أيوب وجهاً لوجه مع الخلق: "أين كنتَ عندما وضعتُ أساس الكون؟ كلّمهُ عن الكواكب والمَجرّات والنجوم وحركة الكون والمَخلوقات وحركة الأرض وتفاصيل الحياة... رأى أيوب نفسه وجهاً لوجه مَع عظمة الخالق وعظمة الكون. واكتشف أيوب أنّ أسئلة الله لهُ فيها حكمة أكثر من أجوبة النّاس.
نحن أيضاً لا نفهم ولا نعرف أين تصبّ أسئلتنا في هذا النّظام العظيم في مشروع الله. هلْ يجب أن يتوقّف الكون في كلّ مرّة يمرّ بارّاً بمشكلة أو مُصيبة؟ أم علينا أن نثق بمشروع الله علينا؟ إذا كان هدف الإيمان بالله أو الديانة هوَ انتشال الإنسان مِن مصاعبه فلا تعود ديانة بلْ تصبح شركة تأمين وهذه نهاية الإيمان.
شبّه أحد القدّيسين حياتنا كحياكة بين الله والإنسان، الله يُحيّك الصورة التي لا نراها سوى مِن الأسفل فلا نفهم منها شيئاً ولا نرى سوى خيطان تتدلّى بعشوائيّة ولكن الله يراها مِن فوق وهي لوحة رائعة مليئة بالألوان .
علينا أن نثق بمشروع الله، فمشروعه لا يفشل أبداً إذا كنّا أمناء مؤمنين واثقين متواضعين مسلّمين بعمل الروح في حياتنا لنَصير قدّيسين أمامه بلا عيب بالمحبّة.
صلاة:
باركنا يا ربّ، واغفر لنا كلّ مرّة نستقيل من العيد، أو نفسده بأنانيتنا ولامبالاتنا. وأعطنا أن نتصالح مع ذواتنا أولا، فينعكس ذلك سلاماً حولنا، وتصبح عائلتنا مغارة تستقبلك، ومنارة تشعّ دفئا من دفئك، وحناناً من حنانك، ويصير لنا كلّ يوم تذكار ميلادك. لك المجد إلى الأبد. آمين.
(من كتاب صلوات العائلة)