اتّباع المسيح - مع المونسينيور يوسف سويف
رياضة روحيّة - عنّايا
عيلة مار شربل – 30 حزيران 2001
مع المونسينيور يوسف سويف
الموضوع: "اتّباع المسيح"
باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين.
"مَن أراد أن يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني". (لوقا 9/ 23).
أتوقف على هذا الموضوع انطلاقاً من قراءة لعظة قداسة البابا، وجهها هذه السنة بأحد الشعانين، طبعاً لكل المؤمنين وبنوع خاص للشبيبة. دائماً بأحد الشعانين يتم لقاء الشبيبة العالمي الذي يهيئ الأيام العالمية للشبيبة. مع هذه الألفية الثالثة قداسة البابا وجه السنة هذه العظة تحت هذا العنوان:
"مَن أراد أن يتبعني"
عظة غنيّة تستحق أن نتوقف عليها، لأن هذا الموضوع غني جداً، وطبعاً ينطبق مع برنامج عيلة مار شربل التي تتهيّأ لرياضة روحيّة وعندها محطات ثابتة خلال السنة.
وتماشياً مع دعوة قداسة البابا "من أراد أن يتبعني"، نتوقف لنرى أن المحور الأساسي الذي ارتكز عليه قداسته وهو يتوجه للشبيبة هو اتّباع المسيح؛ أن تتبع الشبيبة المسيح وأن تختار الحياة...
أن تتبع المسيح يعني أن تسير على طريق المسيح. وما معنى طريق المسيح؟ يعني طريق موته وقيامته، هذه هي النقطة الأساسية، المحور الأساسي. اتّباع المسيح والسير على طريقه، هذا الطريق الذي أدّى به إلى الموت والقيامة. فعلى أساس الموت والقيامة يرتكز مشروع اتّباع المسيح.
في عالم اليوم لا يمكننا أن نفهم يسوع بمنطق النجاحات والسلطة وتحقيق الأعمال الكبري. منطق عالم اليوم هو التحقيقات العظمى. فبهذا المنطق لا نستطيع أن نفهم المسيح. فلكي نفهم المسيح علينا أن نعود ونكتشف أنّه هو "المسَّيا" المسيح المتألم، ومن خلال هذا الوجه نفهمه.
إنّه "المسَّيا" المسيح المتألم الذي يتخطّى كل المقاييس والمعايير البشريّة المعاصرة. فإذاً نحن أمام مواجهة. المقياس العالمي اليوم يركز على نجاحات العالم الكبيرة. ومقياس آخر هو المسيح المتألّم، من هذا المنطلق الدعوة موجّهة لي للنظر، أي لرؤية وجه المسيح. أي مسيح نريد؟
الذي هو أولاً خادم الربّ؛ يسوع الذي أتم رسالته كمسيح يعني كممسوح مُرسَل من الآب من خلال التضامن مع البشر فأصبح ابن الإنسان؛ يسوع الذي أتم رسالته في الخدمة والطاعة حتى الموت. إنّه مسيح يخرج عن نطاق كل تصوّر. فلا نستطيع إذن أن نفهمه بمنطق النجاحات والتطوّر الذي يتبعه العالم لتحقيق إنجازاته ومشاريعه.
النظر إلى وجه المسيح الذي أتى ليتمم إرادة الآب وقد ظلّ أميناً حتى النهاية، وهو يحقق رسالة الخلاص للذين يؤمنون به ويحبّونه ليس بالكلام فحسب بل بالواقع الحياتي أيضاً. إذا كان الحب هو الشرط لاتباع المسيح، فالتضحية هي التي تبرهن وتمتحن هذا الحبّ.
إنجيل لوقا "مَن أراد أن يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني". (لوقا 9/ 23)، يعبّر عن الطابع الراديكالي الجذري، عن اختيار لا يحتمل التردد. هذا الآية واضحة بجذريتها.
إذاً إنّه اختيار لا يحتمل التردد. واضح. فاتباع يسوع هو أمر متطلّب، أدهش التلاميذ عينهم، ومنع عبر الأجيال عدداً كبيراً من الرجال والنساء من اتباع المسيح. لكن هذه الجذرية عينها هي التي أنتجت أيضاً ثمار القداسة والاستشهاد المذهلة وهي أيضاً عبر الزمن تثبّت الكنيسة.
إذاً هذه الجذرية أخافت البعض فتراجعوا. وهي أيضاً ثبّت الكنيسة في مشروع القداسة. واليوم أيضاً، هذه الكلمة بالذات "اتبعني... احمل صليبي..." تلقى صدى الشكوك والجنون... "إن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة"، لها صدى الجنون. ما هذا المشروع الغريب؟ ومع هذا كلّه تبقى هي المقياس لأن الطريق التي رسمها الآب لابنه هي عينها التي يسلكها التلميذ الذي قرر اتباع الابن؛ فلا توجد طريقان، بل طريق واحد فقط: الطريق الذي سار عليه المعلّم ولا يُسمَح للتلميذ أن يبتكر طريقاً آخر. عمليّة الاختيار تتمّ داخل القلب. هنا دور قلب وداخل الإنسان في هذا المشروع. تتم في باطن في عمق أعماق الإنسان. الظروف الخارجية لا تتعلّق فينا. فما هو مرتبط بنا مباشرة إنما هوَ الإرادة، أي أن نكون بالقدر الممكن مطيعين للآب مثل يسوع ونكون مستعدّين أيضاً لقبول المشروع الذي يرسمه لكل واحد منّا، وقبول المشروع حتى النهاية. إذا كان الاختيار فعلاً نابع من داخل الإنسان وليس من ظروف خارجية يمكن عندئذ أن نقبل هذا المشروع ونسير به حتى النهاية.
من هنا إن كلمة فليكفر بنفسه هي كلمة صعبة الفهم والقبول، وهي بكل بساطة، أن ينكر الإنسان مشروعه حتى يتقبّل ويستقبل مشروع الله وهذا التقبّل والاستقبال هو طريق التوبة الأساسي والحتمي في الوجود المسيحي. حياة التوبة جعلت بولس يقول "لست أنا الحيّ بل المسيح حيٌّ فيَّ". إذاً "فليكفر بنفسه" فيها أولاً قدرة إنكار المشروع الذاتي الشخصي وقبول مشروع الله بكامله وهذا القبول او النكران للمشروع الشخصي وقبول مشروع الله هو التوبة. وحياتنا هي توبة مستمرة.
الحياة تُعاش ويتحقق معناها بالعطاء والمجانية. فالمسيح لا يطلب نكران الحياة. "فليكفر بنفسه" لا تعني نكران الحياة بل استقبال الحياة في جديدها وملئها، وهو وحده قادر أن يمنحها بملئها والإنسان في عمق أعماقه يميل إلى التفكير بذاته. هذا الطبيعة البشريّة موجودة بقلب الإنسان، الميل نحو الذات ونحو وضع شخصه في محور المصالح فيكون الإنسان مقياساً لذاته ولا يقوِّم مقياساً لكل الأمور. أما من تبع المسيح فيرفض الانغلاق ولا يقيّم الأشياء بقدر ما تعود إليه بالأرباح والمكاسب، فتلميذ المسيح يقيس الحياة بمقياس العطاء والمجانية، فالحياة الحقيقية يعبّر عنها بتقدمة الذات، وهي ثمرة نعمة المسيح، وهي الوجود الحرّ في شراكة اتحاد مع الله ومع الأخوة. فالخيار إذا هو بين إما أن أكون أو أن أملك. بين حياتي الملآنة أو وجودٍ فارغ. في النهاية الخيار هو بين الحقيقة أو الكذب إما أنا في الحقيقة إما في الكذب. المسيحي لا يبحث عن الألم بل يحمل صليبه. المسيحي لا يبحث عن الألم حبّاً بالألم بل يفتّش عن الحبّ، والصليب المقبول الشخصي والحر والواعي يصبح علامة الحبّ والعطاء الكامل. الصليب المقبول بحريّة علامة الحب والعطاء والمجانية.
أن نحمل الصليب وراء المسيح يعني أن نتحد به حتى نعبِّرَ عن أقصى درجات الحب. فلا يمكننا أن نتحدث عن الصليب دون أن نأخذ بالاعتبار حبّ الله لنا الذي يريد أن يغمرنا بعطاياه.
بدعوته إيانا اتبعني، لا يعني الله أن أجعل المسيح مثالاً فحسب، بل إن يسوع يقول لي أيضاًَ شاركني في حياتي، شاركني في مصيري، قاسمني اختياري وكمل حياتك معي بمحبّة الآب ومحبّة الأخوة.
وهكذا يفتح المسيح أمامنا طريق الحياة الذي وللأسف مهدد دوماً بطريق الموت. فالخطيئة هي الطريق الذي يفصل الإنسان عن الله والقريب، ويحقق الانقسامات، مهدِّدةً المجتمع من الداخل.
طريق الحياة هو أيضاً طريق الصليب، طريق الثقة بالمسيح، طريق الخلاص والسعادة الذي لا يأبى الفشل والصعوبات والوحدة، لأنّه الطريق الذي يملأ قلب الإنسان من حضور يسوع. إنّه طريق السلام وضبط النفس والفرح العميق.
اتباع المسيح له غاية واحدة، وهي عالمٌ أفضل.
نحن نتبع المسيح من أجل عالم أفضل، وقداسة البابا يرسم الصليب كطريق للحياة والسعادة، ويقول "لا تخافوا أن تمشوا في طريق الربّ". وفي الدرجة الأولى يقول هذا للشبيبة المدعوّة أن تكون علامة الألفية الجديدة، علامة رجاء. فإذا تركتم نعمة الله تعمل فيكم وعشتم الالتزام اليومي، تصنعون من الألفية الجديدة عالماً أفضلَ للجميع.
وانطلاقاً من هذه العظة التي ركزت على حدث اتباع المسيح وعلى جذرية هذا المشروع وعلى الوضوح في الاختيار بأنّه لا يوجد الا طريق واحد ليس غيره اقرأ حدث رفقا.
من كنيسة لبنان إلى الكنيسة الجامعة تُضاف مدرسة جديدة على لائحة الشهيدات اللواتي زينَّ بشعاعٍ سمائي، ظلمات الأرض ونفحن المسكونة بعطر الرجاء والحب والإيمان. فحياة هذه المرأة منذ ولادتها وحتى مماتها هي شهادة للصليب وعلامة للرجاء.
رفقا نمت كعريسها السماوي بالقامة والحكمة والنعمة، فمنذ نعومة أظافرها رسخت في قلبها نعمة التكريس للمسيح. رفقا هنئت بسلام المسيح بداخلها بالرغم من كل ما مرّت به من نفق الاضطرابات والقلق. رفقا كانت تهنأ بسلام المسيح بالرغم من كل الصعوبات التي واجهتها قبل حياة الترهّب وداخل حياة الترهب. هذه الفتاة حملت الصليب باكراً، صليب اليتم، الجوع والحرمان، صليب الهجرة للتفتيش عن عمل وهي في سنٍّ صغيرة، صليب حرمان العاطفة البيتية التي أدخلتها في غربة وصراع لم تكن تعرفهما بنات جيلها. وقد تمرّست رفقا في حمل الصليب وعبرت منذ الحداثة في اختبار الصحراء واستطاعت بنعمة مميزة من المسيح رفيق دربها أن تتخطى كل القشور والمظاهر الخارجية لتلج إلى قلب يسوع. وهو الذي منحها السلام، وزينها بالطمأنينة فلن يسمح بأن يفصلها شيء من محبّته.
مع المسيح رفقا تدرّجت في مدرسة الصليب. الصليب مدرسة مسيحية إنجيلية وفيه صفوف ودرجات... رفقا ربّنا أعطاها النعمة أن تتدرّج، فكانت تتحوّل من مجد إلى مجد...
معه أرادت أن تكون حبّة الحنطة التي تُدفن وتُطمر في الأرض لتنبت وتعطي ثمار القداسة. رفقا أحبّت كثيراً واشتهت أن يكون المسيح أكثر قرباً منها. قالت له: "يا ربّي لِما أنتَ متباعدٌ عنّي؟" ... فافتقدها الربّ ومكث عندها وكانت مسيرة الألم. دخلت في سرّ نزاع البستان وسارت على طريق الجلجلة وانتعشت من العرق الممزوج بالدم وتنقّت من دموع المعموديّة التي تُميت وتُحيي. ذاب جسد رفقا وغدت عمياء كسيحة مرفقة بالجراح والأوجاع ومزجت آلامها بآلام الحمل وانخرطت في سرّ صليبه الظافر.
رفقا أُنزلت من على الصليب ووُضِعت مع المسيح في قبر. ومن قبرها فاح عطر القداسة.
إذاً كانت في حياتها ومماتها رائحة المسيح الطيّبة. رفقا تستريح وتنعم بفرح السماء بعد رحلة ألم طويلة. تمثل هذا القديسة في رحلتها واقع الكنيسة وهي في حج على هذه الأرض؛ وتجسّد بنوع خاص الكنيسة المشرقية. نحن كنيسة تعيش في الشرق، والمارونية في هذا الجبل هي حجٌ طويلٌ من الألم والاضطهاد والمعاناة، يشير إلى مصير التلميذ الصادق الذي قرر واختار أن يتبع المعلّم، وحسبه أن يكون مثله.
وشهادتا بطرس وبولس، ونحن دخلنا في زمن الكنيسة، هذا الكنيسة وُلِدت من الصليب ومن المصلوب بالذات، فمصير الرسولان كان كمصير المعلّم، حياتهما البشريّة مليئة بالصعاب من كلّ الأشكال والألوان النفسية والاجتماعية والدينية، وبطرس يقول بعد اختبار التجربة والصحراء، "انتَ تعرف يا ربّ أنّي أحبّكَ". استسلم في نهاية المشروع لينقاد إلى حيث لا يريد إلى حيث إرادة يسوع أن يكون. واعترف وقال وعلى اعترافه تُبنى حياة الكنيسة "أنتَ هو المسيح ابن الله الحيّ".
أمّا بولس فهو يعشق المسيح الذي شعر به واختبره ولمسه، وحوّل حياته فلم يعد شيء يفصله عن محبّة المسيح. وحياته كلّها هي للمسيح.
بطرس وبولس هما الشهادة الأولى والأكبر والمسلك النموذجي لحياة الكنيسة ومسيرة القديسين. هما المنهج، لعيلة مار شربل في بحثها وتفتيشها عن الطريق وبنوع خاص عن كيفية اتباع يسوع من اجل عيش الخلاص ونشره في العالم بهدف نمو ملكوت السماء.
اتباع يسوع هو تحدٍّ لنا جميعاً. المشروع هو مشروع تحدٍّ، فهلا قبلنـا التحـدّي؟
اتباع يسوع وحمل صليبه هما الطريق لعيش القداسة.
آمين.