"التجذّر والإنتماء" - الأب مارون مبارك المرسل اللبناني
عيلة مار شربل
الجمعة 28 كانون الأول 2001
عنايا – لقاء مع الأب مارون مبارك المرسل اللبناني
الموضوع: "التجذّر والإنتماء"
مقدمة:
تحدّثنا سابقًا عن العبور، أي الولوج من الالف الثالث وزكّزنا أفكارنا وصلاتنا على معنى العبور والاستعداد والتطَلّع الى المستقبل بالرجاء والجهوزيّة.
نتوقّف هذه السنة ونحن منطلقين في الألف الثالث عند مفهوم "التجذّر والتأصّل والإنتماء". لأننا بدأنا مسيرة طويلة وشاقة في هذا العصر المتطلّب والمنفتح.
1) إن الإنتماء في الحياة المسيحيّة يعلّمنا عيش حقائق ثلاث، تؤدّي إلى ربط حياتنا بحياة المسيح، كما المسيح ربط حياته بحياتنا منذ المغارة وكمّلها على الصليب. لهذا نرتّل بالسريانيّة "وحّدتَ يا ربّ لاهوتكَ بناسوتنا وناسوتنا بلاهوتك...".
أ- الإنتماء هو عيش "رباط المحبّة"، إنّه الركيزة التي عليها يربو وينمو. وهذا الرباط يربط مصيرنا بمصير يسوع، كما هو ربط مصيره بمصيرنا منذ الولادة حتى الموت والقيامة.
ب-الإنتماء هو التزام "بربط المسارين"، أي مسارنا مع مسار يسوع. لسنا فقط على المصير، بل على المسيرة اليوميّة متفقون معه. وهو الذي قال: "ليس مَن يقول يا ربّ يا ربّ يدخل ملكوت السماء بل مَن يعمل مشيئة أبي". إننا هنا بصدد مشروع حياة، وعمل يومي، يجعلنا في عمليّة إتحاد معه بالفكر والنيّة والعمل.
ج-الإنتماء هو عمليّة "امانة بالبذل"، أي الثبات معه حتى النهاية مهما كلّف الأمر، حتى ولو التضحية. لأن الحبّ الكبير هو أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل من يحبّ. ويسوع بدأ البذل والتضحية في عمليّة التنازل، أي شاركنا 33 سنة، اي كل حياته على الأرض (العدد ليس المهم، بل الكمال، اي كلّ ما عاشه) شاركنا بضعفنا، إنّه تواضُع، بذل، تضحية متواصلة... كل حياته. ونحن مدعوون إلى التفكير بهذا البذل.
2- يعطينا الإنتماء، وبالأخص في هذا الزمن الميلادي حياة جديدة، لا بل ولادة جديدة.
أ) لسنا نقصد بهذه الولادة عودة إلى نقطة الصفر كما فهم نيقوديموس في حديثه مع يسوع، إذ أراد العودة الى البطن للبدء أي إلى الظلمة والإنغلاق، إلى الضمانة الوالديّة البشريّة. أمّا يسوع فلقد طلب منه أن يتقدّم إلى الأمام وليس الرجوع إلى الوراء. طلب منه الولادة من الماء والروح -> أي الغسل من الخطيئة، وحمل عطيّة الروح ونعمته التي تدفعنا إلى نوعية عيش جديدة.
ب) لسنا نقصد بها "الولادة النفسانيّة"، كما يشعر الإنسان بمعنويات جديدة بعد تعرّضه لحوادث، أو بعد تحقيق نجاح أو تتميم مشروع (كالزواج، السفر، البدء من جديد)، أو الخروج من سجن أو مرض أو مصيبة...إنّها ولادة روحيّة، أي تلك التي يحقّقها فينا الروح القدس.
ج) نقصد بهذه "الولادة الجديدة"، عمل الروح القدس فينا الذي يثبّتنا على الخير بالرغم من كلّ الإعتراضات، الذي يقوّينا ليس للمواجهة فقط إنّما للتمسّك بقناعاتنا وبإيماننا وعيش محبّتنا. الروح القدس لا يدرّب جنود، إنّما يبني نفوس حتى تكون بكل حريّة بتصرف الربّ انطلاقاً من محبّتها. لذلك نفهم هذه الولادة عن طريق الإنتماء:
1- إنّها شوق إلى الأفضل: اي إلى الأحسن والأسمى. لأن الشوق يملأ القلب يتحوّل عندها إلى دافع يسعى من خلاله الإنسان إلى تبديل نوعيّة تصرّفه ونوعيّة علاقاته، بحيث تصبح كلّها نابعة من اكتشاف نعمة الله، تلك العطيّة من الله، التي اسمها "الولادة الجديدة".
2- إنّها تحقق الفرح: ان يفرح الإنسان لا يعني أن يضحك، إنّما أن يعيش الحقيقة وراحة الضمير والعمل للتعبير عمّا في داخله ببساطة وأمانة.
3- إنّها سعي للإنفتاح: وهذا الإنفتاح يكون على صعيدين متكاملين؛ الصعيد الأول هو الإنفتاح على الربّ يسوع من خلال عيش الروحانيّة التي هي صيغة عبادة ونوعيّة علاقة ترتكز على الممارسات الروحيّة المتنوعة وعلى الخبرة الروحيّة بالإحتكاك وعيش العلاقة المميّزة معه؛ والثاني هو الإنفتاح على القريب، اي على كلّ إنسان نلتقي به ونعيش معه، فنخرج من انغلاقنا وتكبّل انانياتنا ونذهب إليه لنقبله كما هو. وهذا الإنفتاح الثاني هو نتيجة مثمرة للإنفتاح الأول، بحيث حُسن علاقتنا بالربّ تؤدّي حتماً إلى حُسن علاقتنا بالقريب.
4-إنّها عيش الشراكة: وهذه الشراكة هي الوجه الآخر للإنفتاح، إنّها تكمّله. الشراكة مع الغير تعني أن يصبح له حساب في فكري وقلبي. لم يعد الآخر مغيّباً عن فكري وشغلي وخدمتي. لقد اكتسبنا الحسّ الجماعي والذهنيّة الجماعيّة الواسعة. إننا كنيسة، ونكون هذه الكنيسة حيثما حللنا، لأننا نحمل الإيمان ونعيش المحبّة ونحقق الرجاء. كل هذا زرعه فينا الربّ بالروح القدس.
3- يتطلّب منّا الإنتماء، وبالأخص عندما نقف أمام المغارة لنتأمّل ولنفهم معنى حضور الله معنا، ومعنى تجاوبنا معه حتى يصير العيد عيداً حقيقيّاً:
أ) قراءة العلامات، (طفل في أقمطة) وهذا يعني أن نربط الإشارة بالحقيقة حتى يصير لها معنى وإلا علقنا في السطحيات.
ب) عيش الوقت الحاضر، حتى نأخذ كل الوقت. العيش بالماضي يجعلنا مكبّلين ونفقد الفرص، عيش الفكر بالمستقبل يجعلنا أصحاب خيالات لا نعرف إذا تتحقق. اما الحاضر فهو عيش الواقع الذي فيه نلمس الحقائق ومنه نستخرج الجمال فلننتبه إلى الوقت، إنّه يمرّ بسرعة، ولكن كيف نستفيد منه.
Le moine et le pshychiatre.(كتاب للمطالعة).
ج) الترتيب والنظام لخلق السلام الباطني. راجع مار اغوسطينوس، أي ان يكون كل شيء بموضعه وإلا يخلق الاضطراب يسبب الفوضى.
د) احياء العلاقة الصادقة، الشفافة، الوضوح والصفاء مع الله، وهذا يعود ليخلق العلاقات الصادقة والناضجة مع الغير->من هنا ينجح التعاون، المشاركة، التسامح وبالتالي تكون الجماعة أقوى ولها مفاعيل خيّرة...
نختم بقصة الشمعات الأربع في الهيكل لنقول "الرجاء يعيد إلينا عيش الإنتماء"
القصة تقول: "يوجد في احد الهياكل اربع شمعات مضاءة ويسود صمت رهيب إلى درجة اننا نستطيع سماع ما تقول وتتهامس فيما بينها.
- قالت الأولى: "أنا أدعى "السلام"، اعتقد ان الناس غير قادرين أن يحافظوا عليّ؛ يجب أن انطفئ؛ وخفّ نورها وانطفأت.
- قالت الثانية: "أنا اسمي "الإيمان"، وللأسف صرت سطحيّة، ولا يهم الناس أن يعرفوا عنّي شيئاً. لا معنى لي إن بقيت مضاءة". فأنطفأت.
- قالت الثالثة: "أنا أسمي "الحبّ"، لم يعد عندي قوّة لأبقى مشتعلة. يهملني الناس ويتركوني جانباً ولا يكترثون لي. حتى أنّهم يتناسون الأقرب إليهم ولا يحبّونهم." ولم تنتظر لحظة إلا ان انطفأت.
فجأة دخل طفل إلى الهيكل ورأى الشمعات الثلاث غير مشتعلة فتعجّب وقال: "ما هذا! يلزم أن تكون كل الشمعات مضاءة، وبدأ يبكي... عندها،
- قالت الشمعة الرابعة: "لا تخف يا صغيري، طالما انني احافظ على شعلتي مضاءة، يمكننا أن نعيد إنارة الشمعات الأخريات. أنا إسمي "الرجاء".
وبنظرة مشعّة وعينين برّاقين حمل "شمعة الرجاء" وأضاء الشمعات الثلاث الباقية: السلام، الإيمان والحبّ.
إذا أردنا فهم هذه القصّة وتطبيقها نقول أن الطفل يمثّل يسوع في المغارة الذي جاءنا بالرجاء لكي يعيد إشعال الحبّ والسلام والإيمان في حياة البشريّة، بعدما ضعفوا في ممارستنا اليوميّة. كما وأن هذا الطفل يمثّل أيضاً كل واحد منّا. كلّنا مدعوون أن نكون بانتمائنا للربّ، أداة يستخدمها الله والناس معه، لإعادة شعلة الحرارة إلى الإيمان والمحبّة والسلام وذلك بالتمسّك الدائم بالرجاء فينا وبالتالي تتحقق ترنيمة الملائكة عند ولادة يسوع:
"المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر".
بالختام نقول: إن الإنتماء الذي نقصد به ولادة جديدة هذا يعني أننا نحمل هويّة جديدة تنطلق من هويّة يسوع الذي بها يتقدّم نحونا في ميلاده:
1) هويّة يسوع:
الإسم = مخلّص العالم
العمر = الأزليّة
مكان الولادة = بيت لحم – المغارة ، ولكن الأهل من السماء.
رقم السجل = واحد لأنّه في قلب الثالوث.
2) هويتنا نحن:
الإسم = مسيحيين، يعني مساعدين له في خلاص العالم.
العمر = كل لحظة نبدأ من جديد
مكان الولادة = جرن المعموديّة الذي نجدده بالإعتراف وكل مرّة نعيش خبرة
حلوة مع الربّ.
رقم السجل = 2001 (السنة الحالية) من سني عمر الكنيسة التي نحن ننتمي إليها وابناؤها.
آميــن.
الأسئلة:
1- في المغارة نتأمل مريم الصامتة والمتأملة يسوع، كلمة الله المتجسّد. تعلّمنا مريم الإنتماء، لكلمة الله، كيف نقوم بها؟
2- في المغارة نتأمل يوسف واقفاً أمام مريم ويسوع ويعيش الأمانة للعيلة المقدّسة ويعلّمنا الإنتماء للعيلة، كيف نتمم ذلك؟
3- في المغارة نتأمل الرعاة والمجوس يأتون من بعيد ومن قريب ليسجدوا ليسوع وليقدّموا الهدايا، يعلّموننا الإنتماء للكنيسة التي يجمعها يسوع من كل صوب ومن كل لون، كيف ننتمي للكنيسة؟
4- في المغارة نتأمل المعلف أو المذود الذي فيه ينام يسوع، وهذا المذود هو موضع طعام الحيوانات، حوّله يسوع إلى صليب ومنه انبسط حتى يعطينا جسده ودمه مأكلاً، هذا يعلّمنا الإنتماء إلى القربان، ما هو انتماؤنا للقربان وكيف؟
5- في المغارة وخارج المغارة، نجد يسوع ونتأمله كيف كان يواجه المعارضة والمعاكسات، هيرودس أراد قتله ورفضه، أهل مدينته رفضوه وأرادوا رميه، ويسوع التزم بالإنتماء إلى وطنه، كان ناصرياً وعاش في موطنه وأدّى الجزية واحترم القوانين كلّها، سيعلّمنا بذلك الإنتماء للوطن، كيف نحن نتمم ذلك؟