الكاهـن شـاهـد للرحمة والخدمة - مع المونسنيور يوسف سويف
الجمعة 26 نيسان 2002
عيلة مار شربل – عنايا
ألمونيسنيور يوسف سويف
المسيح قام،
الله معكم، موضوعنا اليوم هو في الأساس موجّه للكهنة، ولكنّي أحببت أن أقوله لكم.
عنوانه، "الكاهن شاهدٌ للرحمة وللخدمة". رسالة صدرت منذ عدّة أشهر من مجمع الإكليروس الباباوي الحبري، موجّهة إلى الكاهن، وعنوانها استوقفني، وهو التالي:
"أيها الكاهن أنتَ سرّ الرحمة". عنوان غير مألوف. فنحن نعرف اسرار الكنيسة، والمسيح هو سرّ الأسرار، فأتت هذه الرسالة تقول للكاهن، انتَ أيها الكاهن، هوَ سرّ الرحمة.
رسالة عميقة وجميلة وفيها محاور عديدة. احببت أن أقولها لعيلة مار شربل لعدّة أسباب، وهي عائلة كهنوتية وأنا أعرف أنكّم علمانيين:
1- لكي نتعرّف على صورة كاهن المسيح الذي هوَ سرّ الرحمة، وطبعاً هذه الرحمة تتجسّد بالخدمة. خدمة الكاهن.
2- لكن فعلاً بعيلة مار شربل أكون مساهماً بخلق المناخ الكهنوتي، لأنّه بهذا الاختبار يُطرَح الكهنوت العام وامكانية الفرز، أي أن يُفرز أشخاص ليكونوا كهنة المذبح.
3- نقطة عزيزة على قلبي، حتى برعايانا ننظر إلى الكاهن من هذا المنظار ونرى كيف نكون مساهمين في أن يكون سرّ الرحمة.
إنطلاقاً من كلّ هذا، احببت أن اتوقف على هذا الموضوع الكهنوتي. المطروح في هذه الرسالة هي تأملات تدعو الكاهن للتوقف على هذه الدعوة المنغرسة بالرحمة الإلهيّة. فالرحمة الإلهيّة هي هذا الغذاء الذي صيّرنا كهنة. الكاهن يصير كاهناً استناداً إلى هذه النعمة، الرحمة الإلهيّة، وهي التي تشدّد خطانا، تشدّد طريق واختبار الكاهن في مسيرته نحو الملكوت وقد أوكلت إليه كل الجماعة التي تتوجّه هيَ نحوَ الملكوت والذي هوَ الهدف الأسمى في حياتنا.
يسوع المسيح قال للكهنة، "كونوا رحماء كما أنّ أباكم رحيمٌ هوَ"، وهذا ليس فقط للكهنة. الرحمة، إي لا تقسّوا قلوبكم. أن يكون الكاهن وكلّ معمّد يشترك في كهنوت المسيح، رحوم، فرحمة الله هيَ كمال الكاهن. نحن نكّون كنيسة صادقة حقيقيّة مخلصة، مثلما قال قداسة البابا، عندما نعترف ونعلن هذه الرحمة الإلهيّة، التي هيَ صفة الخالق والمخلّص الأكثر بهاءاً وجمالاً، وتكون أيضاً صادقة في حياة الكنيسة، عندما تقود الكنيسة الناس إلى ينابيع الرحمة التي يمنحها المخلّص.
رسالة الكاهن هيَ ان يقود الناس إلى ينابيع رحمة الفادي. والكاهن هو شاهد لهذه الرحمة، لا بل مثلما يقول هذا النداء، أنتَ ايها الكاهن سرّ الرحمة، وعندها الكاهن هوَ غنيّ بعينيّ الله وكم خدمته وعمله هو غنيّ في نظر الله. وغنى الكاهن والكهنوت لا يقوم من خلال الأعمال التي يعملها او النشاطات التي يحقّقها، غنى الكاهن يقوم من خلال مَن هوَ هذا الكاهن. مَن نكون نحنُ كهنة المسيح؟
كثيرٌ من الكهنة ليس عندَهُم قدرات على المشاريع والتحريك، ولكن عندهم الكهنوت، أي شخصهم الكهنوتي شخصٌ مميّز لأن المقياس ليس بكثرة العمل.
الكاهن إذاً غناه في عينيّ الله ياتي ليس من كثافة الأعمال التي يعملها، لكن يأتي مِن مَن هوَ في نظر الله. الكاهن يمثّل المسيح. هو يُصبح والمسيح واحد، وهنا مهمّ أن ينتبه أنّه والمسيح واحد ليس بفترة معيّنة من النهار أو الأسبوع، هو والمسيح واحد إلى الأبد. لأن الكاهن بشخصه يمثّل المسيح، وهنا مشكلة. إذا في القداس يعي الكاهن أن من خلال شخص المسيح فيه يتمّ هذا التحوّل، وانّه والمسيح واحد، و ليس فقط في الاحتفال وممارسة الأسرار بل واحد في كل تفاصيل الحياة انطلاقاً من المذبح مروراً بحضوره في الحياة كلّها. الكاهن يكون غنيّ بقدر ما يكون متّحد بالمسيح بطريقة دائمة.
طبعاً هذا موضوع صعب جدّاً، الاتحاد دائماً والوعي على هذا الاتحاد في كل الظروف، لهذا أمام هذه الحقيقة نكتشف ضعفنا ونكراننا وتراجعنا أمام هذه الحقيقة، لكن شيءٌ مهم يعزّينا هو نِداء المسيح يقول "أنا معك، لا تَخَف". وطبعاً هذا الكاهن الذي يعيش بصدق هذا الاتحاد، فأمام الضعف وأمام الخوف هوَ مدعو أن يكون صادقاً بشهادته للمسيح: مصداقية الشهادة. الرسل اختبروا حقيقة الربّ القائم من الأموات وقبلوا محبّته التي ترحم واصبحوا من خلال هذا الاختبار شهوداً لهذه المحبّة. والكاهن ايضاً مدعو بصدقٍ ووعيٍ أن يعيش الاختبار، أن يضع اصبعه في جراح الربّ ويتأمّل يداه ويضع يده في جنبه وهكذا يتحوّل شكّه إلى إيمان. أي أنّ الكهنوت لا يكمن أن يكون كهنوتاً حقيقياً إلا انطلاقاً من خبرة مع المسيح القائم. فأي نبعٍ يمكن أن يملأ قلبَ كاهن سوى رحمة الربّ. والمسيح الجالس على البئر ينتظر السامريّة، هذا المشهد يمكن أن نطبّقه على رسالتنا الكهنوتية عندما ننتظر بصبر عودة الناس حتى نقربّهم من المسيح، وهنا رحمة الكاهن. فبقدر ما يمتلئ من هذه الرحمة بقدر ما يقود الناس إلى رحمة المسيح بصبر. ويصبح الكاهن بانتظار الناس، فإن الذي يأتي إلى الكاهن يريد أن يتجدد ويلتقي بالمسيح، وهنا نسأل كم أن هذا الكاهن قادر وجاهز على الصبر والإصغاء. فما المنفعة أو القيمة أذا التقى الكاهن فقط مع الذين يرتاح إليهم. الكهنوت هوَ أن تكون أنتَ أيها الكاهن جالس على البئر تنتظر كلّ إنسان، وأيضاً تفتّش عنهم. أنتَ ايها الكاهن سوف تقود هذا الإنسان الباحث عن الرحمة الإلهيّة إلى سرّ المصالحة الأسراريّة.
في كل لقاء هناك رباط محبّة بين الجميع، وايضاً مع الذين لا يذهبون إلى الكنيسة. الكاهن يحبّ الكل. وينقل الفرح الذي يعيشه في القداس إلى الذين يحبّهم بصدقٍ تام. يتعاطى الكاهن مع الناس بصبر وخاصة الذين هم بعيدين عن الكنيسة ويقابلهم ويرغب أن يوصلهمللإلتزام. الكاهن الذي يكون مرتبطاً برحمة المسيح هو فعلاً يتوصّل أن يصبر ويسمع ويقود الناس إلى المصالحة والأسرار وفعلاً يكون هوَ سرّ الرحمة الإلهيّة.
الكاهن يقول: لأجل كلمتك ألقي الشبكة. لأجل كلمة المسيح.
بطرس أنكر المسيح. والكاهن ايضاً يتعرّض لتجربة كبيرة هوَ أن يظن نفسه على قدر من الأهميّة واصبح طوباوياً. بهذا التفكير هوَ ينكر المسيح. "ولكن لأجل كلمتك أُلقي الشباك"... الكاهن هوَ القائد الروحي،في وسط الجماعة المؤمنة، ويجب أن يكون قائداً روحيّاً "لأجل كلمة المسيح يُلقي الشباك."
رغم ضعفة ونكرانه، المسيح ينصّبه قائداً روحيّاً في الجماعة.
هذه الرحمة هي مشروع اكتشاف دائم في حياة الكاهن، فهو يوميّاً مدعوّ أن يلتصق بالرحمة الإلهيّة ليكون فعلاً بارتباط دائم بالنبع الأساسي ليتجدّد، فبدونه لا يتجدّد. بدونه نصبح نتكلّم بمشاريعنا نبشّر بتطلّعاتنا، ننسى القضيّة الأساسيّة التي مِن أجلِها وُجدنا.
أين تتجسّد الرحمة الإلهيّة في الكتاب المقدّس. إن مصدر الرحمة الأساسيّة في قلب الإنسان هو كلمة الله. لأنّ كلمة الله هي النبع، المصدر الأساسي التي توصل لنا رحمة الله. الذي لا يعرف الكتاب المقدّس لا يعرف شيء، هو يكون في المعركة دون سلاح وفي الحياة دون معنى. نبع الرحمة الإلهيّة يأتي من خلال الوقت الذي نعطيه لأنفسنا. وهنا أدعوكم لتصلّوا لنا نحن الكهنة "مرتا مرتا تهتمّين بأمور كثيرة والمطلوب واحد"، نحن الكهنة بحاجة لنكون محقّين مع ذواتنا أن يكون وقت صلاة والتأمل وقت أساسي في النهار للربّ وليس فضلات الوقت.
اليوم نحن ككنيسة فيها كهنة المذبح بحاجة لنعيد النظر في الأولويات، ما هيَ الأولويّات؟ هل المسيح هوَ الأول؟ هل الرسالة هيَ الأولى؟ هل الصلاة هي الأولى؟ هل فعل التكرّس للآب هو الأول؟ هل خدمة المحبّة للإنسان هوَ الأول؟ اليوم نحن بأمس الحاجة لنعيد النظر بسُلّم الأولويّات. نحن نصلّي للكنيسة وللدعوات، وأدعو أن نكون برعايانا إلى جانب الكاهن، ليعيش سلّم الأولويّات ففي حياة الكاهن الخيار الأول هوَ يسوع المسيح، الألف والياء البداية والنهاية وكلّ شيء.
عمليّاً نحن الكهنة اليوم كم نخدم خيارنا الأول، الرحمة الإلهيّة تأتي من خلال صلاة الكاهن، من خلال الترك والذهاب إلى القفر. أنتَ تذهب إلى القفر من أجل الرعيّة. أدخل مخدعك من أجل الرعيّة، إذهب أمام القربان، الأفخارستيا هي النبع الأساسي لعيش هذه الرحمة للتجدد من هذه الرحمة. أنا انحني أمام العلمانييّن اليوم الباحثين بجديّة، عندما أرى كهنة لم يعودوا يهتمّون بالثقافة الروحيّة. يجب أن يكون عندنا دائماً همّ الثقافة الروحيّة.
والرحمة أيضاً تتجلّى بحضور الكاهن. أسرد هنا لائحة حضور:
- الحضور المحبّ، أنا الكاهن اليوم حضوري في الجماعة هو الحضور المحبّ. وكيف أن حضوري سيكون حضوراً محبّاً إذا أنا الكاهن وَجدتُ في قلبي الحقد. أنا كاهن مدعوّ أن يكون حضوري محبّاً في المكان الذي أكون فيه حاضر.
- حضوراً لطيفاً، فاللطف مهمّ جدّاً إذ كم أحياناً تكون كلمتي قاسية.
- الحضور المصغي، وأحياناً استفيض في الكلام، وأنسى أنّ الرب دعاني لأسمع أكثر مما اتكلّم.
- الحضور المرافق لحياة الناس كيف يكون وأنا غائب عن مشاكلهم وأنينهم.
- الحضور المجدّد، بدون يأس حضور كاهن مصدر فرح وتجدّد في حياة الجماعة حتى لو كان يمرّ بأصعب أزمة، يجب أن يكون علامة تجدّد.
- حضور فارح مع البسمة الدائمة حتى بقلب وجعه عليه أن يكون مصدر فرح.
- حضوراً مصلّياً، حضور الكاهن يجب أن يكون حضوراً مصلّياً، وانا أترك آخر زاوية للصلاة في نهاري.
- وحضوراً جسديّاً، هو أن يكون الكاهن يتجوّل في رعيته، موجود في رعيته، الحضور يمكن أن يذكّر الناس بأشياء كثيرة. حضور الكاهن هوَ علامة. بمحبّة الناس ونظرتهم إلى الكاهن عنده أمكانيات هائلة. ونشكر الله أنّه في مجتمعنا الشرقي ما زالت الناس تحترم الكاهن.
- حضور معزّي، حضور المسيح مع البعيدين قبل القريبين.
- وأخيراً حضور المسيح المحوّل الشاهد.
الرعيّة بالنسبة إلى الكاهن هيّ التي فيها يجسّد الرحمة الإلهيّة. في الرعيّة ليس الكاهن هو الراعي بل المسيح هوَ الراعي والكاهن يخدم هذا الراعي. والرعيّة ليست حكراً على الكاهن ليست مملكته، هي رعية الكل مفتوحة على الكلّ وللكلّ، هيّ رعيّة الجماعة والكاهن هو خادم هذه الجماعة.
جميل أن يبقى مجتمعنا ينبّت كهنة وتبقى رعايانا منبع للدعوات الكهنوتية والرهبانية. وإذا رأيتم في بيوتكم بزرة دعوة فافرحوا ونمّوها ووجّهوها. الربّ أعطى الكاهن نِعَم، ومن خلال رحمة الله له، هو قادر أن يغيّر ويحوّل في حياة الناس من خلال خدمته التي فيها تتجسّد رحمة الله لكلّ إنسان، وهذا أقوله لكي لا يعود في رعايانا هوّة بين الناس والكاهن. إيمانكم علامة وعي لردم هذه الهوّة بين العلمانيين والكاهن، علامة النضج الإيمانيّ، فإن الذي يحبّ الكنيسة لا ينتقد الكنيسة، وأنا أعرف أنكم في عيلة مار شربل تحبّون الكنيسة وأنتم هنا لتزيدوا محبّةً للكنيسة، ولهذا انتم أكثر الناس مخوّلون أن تردموا أي هوّة بين الكاهن والجماعة من خلال هذه الرحمة التي تكتشفونها أيضاً كعلمانييّن في حياتكم.
فنحن كلنّا، كهنة وعلمانيّين، مدعوين أن نتّحد بهذه الرحمة الإلهيّة ونشهد لها بمحبّتنا وخدمتنا. وشكراً.
آمين.