عظة المطران انطوان نبيل العنداري - في قداس عنايا – الجمعة 21 حزيران 2013
آبائي الأجلاء،
أيها الأحبّاء،
بعدما اختارَ يسوعُ تَلاميذَهُ الإثنَي عَشَر، وعاشُوا بِصُحبَتِهِ، وآمَنوا بِهِ، أرسَلَهُم لِلبِشارَة،وزَوَّدَهُم بِتَوصِياتِهِ وإرشاداتِه. وبَيَّنَ لَهُم بِنَوعٍ خاص ما هِيَ مُتَطَلِّبات وصِفاتِ التَلمَذة، وأَهَمُّهَا التَمَثُّلُ بِهِ وحَملِ الصَليب: "مَن لا يَحمِل صَلِيبَهُ ويَتبَعني فَلا يَستَحِقُّني".
1- تَتَطَلَّبُ التَلمَذَةُ لِلمَسيح أَمران. الأَوَّل، أَولَويَةُ المَحَبَّة لِيَسوع: "مَن أَحَبَّ أَباً أو أُمّاً، أخاً أو أختاً، إبنَةً أو إبناً، لا بَل ذاتَهُ أَكثَرَ مِنّي، فَلا يَستَحِقُّني. والأَمرُ الثاني، حَملُ الصَليب وافتِقادُ الذات. وهذا يَعني أَنَّ اتِّباعَ المَسيحِ هُوَ قَضِيَّةٌ وَرِسالَة، إرادَةٌ واستِجابَةٌ لِنِداءِ الرَب. إنَّهُ حُبٌّ مُتَطَلِّب لا يَحتَمِلُ التَجزِئَة، فَإمّا الرَبُّ وإمّا سِواه. حُبٌ على صُورَةِ حُبِّ الله، حُبٌّ لامَحدود، حُبٌ حُدودُهُ جُنونُ الصَليب.
2- يُذَكِّرُنا هذا الإنجيل بِمَواقِفَ مُوازِيَة لِيَسوع حينَ أَجاب:"إنَّ أُمّي وإخوتي هُم الذين يَسمَعونَ كَلِمَةَ اللهِ ويَعمَلونَ بِها"؛ وفي مَوقِعٍ آخَر قال: "لَيسَ كُلُّ مَن يَقولُ يا رَب، يا رَب، يَدخُلُ مَلَكوتَ السَماء، بَل مَن يَعمَل إرادَةَ أَبي الذي في السَمَوات".
3- ما هِيَ شُروطُ التَلمَذَةِ إذاً؟ في الحَقيقَة، أَنَّ نِعمَةَ اللهِ لا تَفرِضُ شُروطاً، بَل تَرسُمُ الدَربَ التي تُؤَدّي بِالتِلميذِ إلى اتِّباعِ المُعَلِّم. طَريقٌ نَسلُكُهُ بِاستِقامَةٍ ونَزاهَة، طَريقٌ يَتَطَلَّبُ أَقَلَّهُ أُموراً أَربَعَة:
-أَولاً: محَبَّةُ الرَبِّ التي تَعلو كُلَّ حُبٍّ أَو عاطِفَةِ أَو تَعَلُّقٍ آخَر، مَحَبَّةٌ تَقودُ إلى حَدِّ نُكرانِ الذات، حُبّاً بَالرَب.
-ثانياً: حَملُ الصَليب وما يَعنيهِ مِن مَوتٍ عَنِ العالَم، وجِهادٍ وكِفاحٍ روحي.
-ثالثاً: أَلمَجّانِيَّةُ أَو إحتِسابُ النَفَقَة أَو ثَمَنُّ التَخَلّي والتَجَرُّدِ عَنِ الدُنيَا، مِن أَجلِ وَضعِ اليَدِ على المِحراث دونَ التَطَلُّعِ إلى الوَراء تَطبيقاً لِكَلامِ يسوعَ لِلشاب: " دَعِ المَوتى يَدفُنونَ مَوتاهُم ". نَفتَقِدُ مُقتَنى الدُنيا لِنَغتَني بِالله.
-رابعاً: تَوجيهُ القُدُرات والمَواهِب في وَجهِ المَصاعِب والتَجارِب، لِتَقييمِهَا على حَقيقَتِهَا، ووَضعِهَا في مِيزانِ الله وتَحتَ نَظَرِ الله، لاتِّباعِ وَخِدمَةِ الله دونَ حِسابٍ، ولا خَوفٍ ولا تَرَدُّد.
4-إنَّ سَيفَ الحُبِّ هُوَ مُغايِرٌ لِسَيفِ الخُصومَة. هُوَ سَيفُ الإنفِصالِ عَن أَحَبِّ الأَشخاصِ إلَينَا، وَهوَ سَيفُ الإنتِصارِ على الذاتِ لِتَرويضِهَا وتَهذيبِهَا كَي نَكونَ مِلحاً لِلأَرضِ وَنوراً لِلعالَم. سَيفٌ يَدعونَا إلى عَيشِ جَذرِيَّةِ الإنجيل يَوماً بِيَوم ولَحظَةً بِلَحظَة.
5-إنَّ التَلمَذَة لِلمَسيح، واتِّباعَ المَسيح، والبِشارَةَ بِالمَسيحِ، هُوَ إعلانُ إيمانٍ في سَنَةِ الإيمان. إعلانُ حُبٍ وانغِواء بِالرَب بِحَسَبِ تَعبير الطوباوي أنطوان شُفرِيِه : "أَغوَيتَني فَانغَوَيت ".إنَّ تَأثيرَ يَسوع عَلَينَا هُوَ تَأثيرُ الراعي الصالِح الذي يَعرِفُ خِرافَهُ وَخِرافُهُ تَعرِفُهُ وتَتبَعُهُ.و"إن تُحِبّوني تَحفَظوا وَصاياي...أَحِبّوا بَعضُكم بَعضاً كما أَنا أَحبَبتَكُم"، " بِهذا يَعرِفُ العالَم أَنَّكُم تَلاميذي ".
6-في حُبِّهِ واختِيارِهِ إيّانَا لِنَكونَ لَهُ أَتباعاً وتَلاميذ، يَنظُرُ إلَينَا يسوع نَظرَتَهُ إلى ذلكَ الشابِ الذي أَحَبَّهُ. نَظرَةُ يسوع إلَينَا هِيَ نَظرَةٌ ثاقِبَة، تَنفُذُ إلى الأَعماق، إلى القَلب، إلى الضَمير. يُضيءُ النورَ فِينَا، يُوقِظُ ويَجتَذِب طُموحَنا. بِنورِ وَجهِه ونورِ عُيونِهِ ونورِ تَعليمِهِ وإنجيلِه، تَتَبَدَّدُ الظُلمَةونُعايِنُ النُور، ونَسيرُ مَسيرَةَ أَبناءِ النور. عُيونُنَا تَرنَو إلَيه، ووَجهُهُ نَلتَمِس، لأَنَّ سِحرَهُ لا يُقاوَم. يُعَرِّينَا مِن ضُعفِنَا وَيُلبِسُنَا حُلَّةَ الإبنِ الضال، حُلَّةَ إبنِ النِعمَة.
7- إنَّ سِرَّ التَلمَذَة لِلمَسيح واتِّباعَ المَسيح هُوَ في الإنقِيادِ إلى يسوع الوَديع والمُتَواضِعِ القَلب الذي يَشُدُّنَا إلَيهِ بِصَوتِهِ العَذب:" تَعالَوا إلَيَّ يا جَميعَ المُتعَبينَ والمُثقَلينَ بِالأَحمال وأَنا أُريحُكُم "، " مَن يَجوعُ ويَعطَش فَليَأتِ إلَيَّ ". جاذِبِيَّتُهُ هِيَ جاذِبِيَّةُ نارٍ آكِلَة: نارُ الحَقِّ والحُبِّ والسَلام.
أيها الأَحِبّاء، الرَبُّ يَدعونَا اليَوم، كما دَعا شَربِل ورَفقا ونعمة الله، فتَرَكوا كُلَّ شَيء، وانقادوا إلَيه، وتَتَلمَذوا لَهُ، وحَمِلوا الصَليب. فَهَل نُلَبّي الدَعوَة، ونُقَدِّمُ لَهُ بِإيمانٍ وحُبّ ذَواتَنا كما قَدَّمَ ذاتَهُ لَنا، حُبّاً بِنا؟ أَللَّهُمَ أَعطِنَا أَن نُجيبَ بِسَخاءِ الرُسُلِ والتَلاميذِ الأَطهار، بِشَفاعَةِ قِدِّيسينَا – آمين!
+ انطوان-نبيل العنداري