بولس المعوشي
ولد البطريرك بولس المعوشي في أول نيسان سنة 1894 في جزين مدينة الشلال، من أبوين تقيين فاضلين وأسرة كريمة إشتهر رجالها بالوطنية والعلم. أبوه أسعد شديد المعوشي. أمه مدول ضاهر المعوشي. تخرج من معهد الأخوة المريميين في دير القمر ومن مدرسة الحكمة.
ثم أرسله المثلث الرحمة المطران بولس بصبوص إلى رومية فدخل مدرسة البروباغاندا ثم انتقل إلى الجامعة الغريغورية حيث أكمل دراسة العلوم والفلسفة واللاهوت، ودرس اللغات القديمة أي اللاتينية واليونانية والسريانية، كما اتقن اللغات الفرنسية والايطالية والاسبانية والانكليزية، سيم كاهناً في رومية بوضع يد المطران نعمةالله أبي كرم سنة 1917.
وبعد الحرب العالمية الأولى عاد الى لبنان كاهناً وتولى سنة 1919 وظيفة كاتم سر لمطران صيدا. ولما اعتزم المثلث الرحمة المطران شكرالله خوري رئيس أساقفة صور السفر الى أميركا لزيارة الموارنة المغتربين، بناءً على تكليف المثلث الرحمة البطريرك الياس الحويك، اصطحب الخوري بولس المعوشي، فقاما بطواف طويل في الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك مدة سنتين.
ولما عاد المطران شكرالله الى لبنان بقي الخوري بولس في أميركا حيث خدم رعايا الموارنة في مدينة نيوبدفورد ومنها انتقل الى لوس أنجلوس كاليفورنيا وظل فيها الى يوم انتخابه سنة 1934 مطراناً على أبرشية صور في لبنان خلفاً للمطران شكرالله خوري، وأبرشية صور التي سُلّمت الى عهدته هي أبرشية واسعة ولكنها فقيرة فكان يجاهد لتأمين نفقات الكرسي وحياة الكهنة كما اعتنى بزراعة أراضي الكرسي في علما الشعب والبطيشية وعين ابل وأقصى الجنوب ليضمن تأمين تلك النفقات، وقد اعترضته متاعب مادية عرف ان يتغلب عليها. ووجه عناية خاصة الى رعاياه في حيفا ويافا والناصرة والجليل.
وفي سنة 1948 عُيّن رئيساً للجنة الرسولية.
وفي 29 أيار 1955 وصل الى بكركي المطران سلفيو اوديّ القاصد الرسولي في القدس موفداً من قبل قداسة الحبر الأعظم البابا بيوس الثاني عشر واجتمع الى أساقفة الطائفة المارونية، بعد أن طلبوا رسمياً للاجتماع في الساعة الرابعة من بعد ظهر اليوم المذكور لسماع براءَة من قداسة الحبر الأعظم. فتلا عليهم الموفد البابوي تلك البراءَة الرسولية باللغة اللاتينية موقعه من صاحب القداسة نفسه، كما تلا ترجمتها الرسمية باللغة الفرنسية. وهي تعلن تسمية صاحب السيادة المطران بولس المعوشي مطران صور بطريركاً للطائفة المارونية على كرسي انطاكية وسائر المشرق، خلفاً للمثلث الرحمة البطريرك أنطون عريضة. فتلقى غبطة البطريرك الجديد وجميع الأساقفة هذا التدبير البابوي بمنتهى الخضوع والاحترام.
وعلى الأثر جرت حفلة في كنيسة الصرح البطريركي تسلم فيها البطريرك الجديد مهام البطريركية بحضور الأساقفة والجمهور الذي كان محتشداً، فجلس موفد قداسة الحبر الأعظم في المقام الأول قبالة العرش البطريركي، ثم تقدم غبطة البطريرك واتشح بالملابس الحبرية وجلس على عرشه، وعندها تقدم جميع الأساقفة ولثموا يديه مقدمين لغبطته الطاعة والاحترام، ثم صعد البطريرك الى المذبح وألقى كلمة مبدياً فيها استعداده للقيام بكل اخلاص وتفانٍ بمهام البطريركية المارونية وتعهد بأنه سيتم هذه الواجبات بكل دقة وأنّه لن يدع شيئاً مما قام به اسلافه في خدمة الدين والوطن الا ويقوم به على أتم وجه.
عندئذٍ قرعت أجراس بكركي فتقاطرت الوفود لتقديم التهاني ولاعلان خضوعها وولائها للبطريرك الجديد، وتعيّن يوم الأحد الموافق الخامس من شهر حزيران القادم موعداً للاحتفال بتنصيب غبطته. نص البابوي :"الى اخوتنا الأحباء المحترمين بولس المعوشي مطران صور. بطرس ديب مطران القاهرة. اغناطيوس زيادة مطران بيروت.
"البابا بيوس الثاني عشر"."اخوتنا المحترمين"."السلام والبركة الرسولية". "لقد أصابنا كما أصاب سائر أبنائنا الموارنة الأعزاء ألم عميق لدى تبلغنا الميتة الصالحة للمأسوف عليه كثيراً البطريرك أنطون عريضة الذي بعد أن أُصيب بمرض شديد، وكان قد بلغ من العمر عتياّ، أنهى حياته على هذه الأرض في 19 من هذا الشهر وفي عيد صعود سيدنا يسوع المسيح. فبصلواتنا الى الله نطلب لنفسه المكافأة بالنور والراحة الأبديين. ويسرنا أن نذكر أنه بعد أن قضى مهمته مدة أكثر من عشرين سنة في توليه المهام البطريركية غادرها بعد أن حرضكم في وصية شريفة، أن تحافظوا على التقاليد الراسخة في نفوسكم، وهي التعلق بالكنيسة الكاثوليكية والسدة البطرسية المقدسة.
وفي هذه المناسبة المؤلمة نحن الذين نحفظ للمورنة عواطف تقدير عميق نؤكد أننا نحتفظ لهم في حاجاتهم بعناية مخلصة ولا غاية لنا سوى خلاص النفوس حسما يجدر بالذي هو على الأرض نائب الفادي الالهي وأن يكن غير مستحق ذلك. ما من أحد يعرف تاريخ الكنائس الشرقية يستطيع أن يتجاهل أو يحقر الادلة الكثيرة التي بها أعرب الاحبار الرومانيون عن عطفهم الخاص على الطائفة المارونية الشهيرة.
ويعرف الجميع أن هذه الطائفة – وليكن ذلك للثناء العظيم عليكم – قد تفانت في الاجابة على المحبة الأبوية بالادلة الواضحة على التفاني والتقوى البنوية. ومنذ وقت قريب أيضاً : ان عناية السدة الرسولية وتعلقكم البنوي قد اتضحا مجدداً عندنا في غيرتنا الوقادة لأجل مصلحة كنيستكم التي لأسباب عدة كانت تعاني صعوبات خاصة. ورغبة في تقدمكم أيها الأخوة المحترمون لقد اخترنا من بين صفوفكم ثلاثة أحبار وأرسلناهم اليكم مزودين بالسلطات الخاصة ليكونوا الى جانب البطريرك أبناءَنا الروحيين والزمنيين.
"ان هؤلاء قاموا قدر استطاعتهم بناءً على الظروف فتمموا مهامهم الثقيلة على أكمل وجه".
لقد جاهدوا بثبات وبدون انقطاع حسما كتبنا في حينه الى المأسوف عليه البطريرك، ليكونوا للرعاة وللمؤمنين على حدٍّ سواء مستشارين حكماء وفي الظروف الحاضرة قادةً أمناء. وإننا نعتبر أن المهمة التي كنا قد عهدنا بها اليكم أيّها المفوضون الأجلاء قد انتهت. واذ نوجه من صميم القلب الى كل منكم شكرنا، غير ناسين بالذكر المأسوف عليه كثيراً المطران عبدالله الخوري وقد توفي فيما كان معتمدنا، فاننا نرسم بالرقيم الحاضر وضع حد للجنة الرسولية التي كنا قد أنشأناها برسالتينا الرسوليتين المؤرختين في 28 أيار 1948.
وكما تعلمون أيها الاخوة المحترمون أن حق تولية البطريركية في الحالة الحاضرة نُقل استناداً الى التدبير الاستثنائي المشار اليه آنفاً بكليته الى الكرسي الرسولي وفقاً لمقتضيات الشرائع الكنسية والعرف الدائم العام، وفضلاً عن ذلك فان تاريخكم نفسه يقدم لنا مثلاً شهيراً عن هذا الاجراء ففي الواقع ان سلفنا المطوب الذكر بنديكتوس الرابع عشر الذي ثبّت بموجب سلطانه الرسولي المجمع اللبناني، عيّن هو نفسه البطريرك سمعان عواد مطران دمشق المارونية. وتلبية لنداء غيرتنا ومهمة رسالتنا العليا نتجنب بقاء الكنيسة البطريركية المارونية التي تحوق بها اخطار جمة محرومة مدة أطول من عناية راعيها، ونتوجه اليها مجدداً بعنايتنا ونرغب في تعيين بطريرك يجلس على العرش البطريركي أن نتمم ونكمل الاجرآت التي اتخذناها منذ أمد غير بعيد لأجل خير المؤمنين.
وبعد أن وزنّا كمالاً وتماماً الشهادات الاجماعية المؤيدة التي توصينا باختيار أخينا الجليل بولس المعوشي مطران صور ورئيس اللجنة الرسولية وبعد أن استشرنا المجمع المقدس للكنائس الشرقية وبما لنا من سلطان رسولي مطلق فاننا ننقله من كرسي صور الى الكرسي البطريركي الانطاكي للموارنة ونختاره ونقيمه بطريركاً وراعياً لهذه الكنيسة بتسليمة تسليماً كاملاً العناية بهذه الكنيسة الانطاكية وحكمها وادارتها في الشؤون الروحية كما في الشؤون الزمنية. واننا نعلم ونأمر أخانا الجليل بولس المعوشي عند تسلّمه هذه الرسائل الرسولية أن يتسلم دون أي تأخير العرش البطريركي، ويتمتع بكامل حقوقه وصلاحياته وسلطاته والتشريع والترقيات والامتيازات التي تمتع بها سلفاؤه.
ونريد من جهة أخرى أن يقوم البطريرك الجديد قبل أن يتسلم الادارة والسلطة على الكنيسة البطريركية بتلاوة فعل الايمان الكاثوليكي ويقسم اليمين العادية وفقاً للنصوص الملحقة بهذا الرقيم بحضور مجمع الأساقفة وان يعنى بارسال هذه الوثائق بعد توقيعها قانونياً الى المجمع المقدس للكنيسة الشرقية. أما فيما يتعلق بدرع الرئاسة المقدس علامة الصلاحيات الحبرية التامة الذي يرسل عن ضريح القديس بطرس فسنمنحه لأخينا المحترم بولس بعد أن يقوم بطلبه بحسب العادة.
لسنا بحاجة أيها الاخوة المحترمون أن نؤكد لكم أننا لا نقصد بهذه الطريقة الاستثنائية التي اتخذناها لتسمية السيد البطريرك أن ندخل بعض التعديلات على حقوقكم المعترف بها من قبل الكرسي الرسولي لانتخاب البطريرك. ونحن اذ نضرع الى المسيح الملك والراعي أن يتعطف ويمنح هذه الكنيسة حياة مزدهرة خصبة ونمواً بالفضائل في عهد ولاية البطريرك الجديد بفضل نشاطه وحكمته نحرضكم ونأمركم بأن تؤدوا فوراً الى مقام البطريرك الطاعة والاحترام الواجبين له.
ونطلب الى الاكليروس العلماني والقانوني والى كل الشعب الماروني ونأمرهم جميعاً بأن يعتبروا المنتخب الجديد كراعٍ وأبٍ لجميعهم وأن يؤدوا له امارات الخضوع والاخلاص التي تؤول الى شرف ومجد الكنيسة المارونية الموقرة. ولا يخامرنا شك بأنكم ستتجندون بنشاط كما فعلتم الى اليوم للعمل في سبيل خير الدين والوطن، ونمنح بكل محبة كلاً منكم أيها الاخوة المحترمون وكلاً من الاكليروس والمؤمنين الموكلين الى عنايتكم البركة الرسولية عربوناً للنعم الالهية. أُعطي في رومية بالقرب من كنيسة القديس بطرس في 25 أيار سنة 1955 وهي السنة السابعة عشرة لبابويتنا.
بيوس الثاني عشر اذاعة البطريرك الجديد: وما ان باشر البطريرك الجديد الكلي الغبطة مزاولة مهام منصبه السامي حتى وجه الى اللبنانيين الكلمة التالية :
"سنتابع رسالة بكركي في خدمة الله والوطن. "نرسل صوتنا ليسمعه اللبنانيون في أرض الوطن وفي كل أرض من مهاجرهم ليجد جميع اللبنانيين في هذا الصوت على مختلف طوائفهم كلمة لبنان الصافية في حبّ الله، وحبّ الرأي المجموع على خدمة الوطن العامة، وعلى حفظ تقاليدنا وعاداتنا الكريمة، واقتباس ما ينبغي لمجتمعنا وعصرنا من كل جديد كريم، والتعاضد مع اخواننا وجيراننا في الأقطار الشقيقة بما يعود بالنفع على السلم العام، واستقرار الأمور وهناء العيش. فيا أيها اللبنانيون من مقيمين ومغتربين ومن موارنة ومن اخوانهم الآخرين في الوطنية، ان رسالة بكركي على مدى التاريخ هي خدمة الله والخير والوطن وسأجهد بدوري في تأدية الرسالة تامةً كاملةً ان شاء الله بمناصرتكم".
وهذه الرسالة، رسالة بكركي، تهدف الى توحيد القلوب في خدمة الوطن المشتركة وقد قال غبطته في احدى خطبه، رامياً الى هذه الغاية النبيلة: "اني لا أنظر في الرجال إلا الى أخلاقهم ومزاياهم وأعمالهم واحترم من يحترم تعاليم دينه. واذا كنت أتمنى شيئاً فهو أن يعينني الله فاخدم وأكون صادقاً في الخدمة بما يعود بالخير والالفة وتقارب القلوب بين جميع الطوائف. ونحن دولة صغيرة عدد سكانها مليون ونيف، يتوجّب علينا أن نضاعف الاجتهاد ونتعاون فننهض بهذا البلد الصغير العزيز. ولا مجال هنا للغرور والكبرياء. وكل ما أرجوه أن تتبدّل بعض العقليات التي لا يزال يعشش فيها الجهل والتعصب الذميم..." أيد الله غبطته وأمدّ بايَّامه.
عن كتاب "بطاركة الموارنة"