أنطوان عريضة
"مجــد لبنــان أُعطِــيَ لَــه"
السعيد الذكر غبطة البطريرك أنطوان عريضة بطريرك انطاكية وسائر المشرق
ولد في 2 آب سنة 1863 في بلدة بشري. حصَّل دروسه أولاً في مدرسة مار يوحنا مارون وأتمها في مدرسة سان سولبيس في باريس. سيم كاهناً عام 1889 واتخذه البطريرك يوحنا الحاج كاتباً لسره.
انتخب مطراناً على طرابلس في أوائل حزيران سنة 1908.
أعاد بناء جانب من كرسيه في كرم سدّه وشاد في طرابلس كرسيّاً فخماً ورمَّم أو شاد ستين كنيسة.
في زمن الحرب الكونية الأولى واصل إطعام الجياع من بدء عام 1915 إلى أواخر عام 1918. تمَّ انتخابه بطريركاً في 17 كانون الثاني من سنة 1932. بنى جانباً من قصر الديمان حيث أقام كنيسة فخمة، زينها الفنان صليبا الدويهي بلوحات رائعة.
زرع عدداً كبيراً من الأشجار المثمرة، أحيا موات أراضٍ واسعة. إشترى داراً في مرسيليا وجعلها مقراً لكاهن يمثله ويقوم بخدمة الجالية والزائرين اللبنانيين. أشاد كنيسة ومدرسة للراهبات في قصبة أميون. وأسّس في شكا شركة الترابة اللبنانية التي أصبحت من أهم المعامل في لبنان.
في عهده طبع كتاب الطقوس المارونية القديمة بما فيها من ترتيبات. وتسلم الآباء اليسوعيون إدارة المدرسة الاكليريكية المارونية في غزير وخصصوا لها ديرهم هناك، وفتحت مدرسة اكليريكية ثانية بإدارة البطريرك في عين ورقة أولاً ثم نقلت إلى مار عبدا هرهريا. في 7 تشرين الأول سنة 1944 انتقل إلى الراحة الأبدية في 19 أيّار 1955 ودفن في كنيسة الديمان وقد ترك وصية تنصّ على توزيع أمواله الوافرة على البطريركية للمشاريع الخيرية وإعالة الكهنة خدمة الرعايا.
الميثاق الوطني: كان فريق من اللبنانيين حتى سنة 1943 يأبون الاعتراف بلبنان ويطلبون حيناً بعد آخر الالتحاق بسورية. ففي هذه السنة عقد مؤتمر حضره أصحاب الرأي من الطوائف المسيحية والإسلامية وفي طليعتهم الرئيس السابق الشيخ بشارة الخوري والمغفور له رياض الصلح وتمَّ فيه الاتفاق بالإجماع على أن يعترف المسلمون بلبنان ضمن حدوده الحاضرة وطناً لهم ويعدلوا عن طلب الإلتحاق بأية دولة في الجوار مقابل تخلّي المسيحيين عن التمسك بأية حماية غربية وموافقتهم على أن يكون لبنان وطناً لجميع أبنائه على السواء وأن يتجه في سياسته اتجاهاً قومياً إستقلالياً، على أن يكون ذا وجه عربي أي أن يتعاون مع الدول العربية إلى أبعد حدود التعاون، مع حفاظه على سيادته وحريته التامة في تصريف شؤونه. وهذا ما أسموه "الميثاق الوطني". وقد امتدح كثيرون من رجالاتنا هذا الميثاق ورأت فيه بكركي دعامة قوية لبناء الوطن.
بروتوكول الإسكندرية: في 7 تشرين الأول سنة 1944 وُقّع ونشر بروتوكول الإسكندرية إعداداً لتأسيس الجامعة العربية فأثار هذا الحدث ضجّة اهتزّت لها البلاد، واهتمَّ لها البطريرك أيّ اهتمام، لأن هناك مسألة وجود لبنان أو عدم وجوده دولة حرّة مستقلّة ذات سيادة في الداخل والخارج، وقد درس بعض علماء القانون هذا البروتوكول تلبية لرغبة البطريرك فوجدوا أن نصّه وروحه عبارة عن تنظيم "كونفدراسيون" وهو خطوة أولى نحو الوحدة التامة اقتصادياً وسياسياً فيضيع بذلك حق لبنان في الاستقلال وعليه ألحّ غبطته بطلب تعديل هذا البروتوكول وعملاً بإلحاحه وحفاظاً على إستقلال لبنان استُبدل بميثاق القاهرة الذي أحلّ كلمة "تعاون" محلّ التنظيم الذي قلنا أنه كان بمعنى "كونفدراسيون".
مؤ تمر بكركي: لم يفتُر غبطة البطريرك عريضة عن الاهتمام بشؤون جميع اللبنانيين من مختلف الطوائف وقد عقد مؤتمراً في بكركي حضره النواب الموارنة وبحثوا فيه مع أصحاب السيادة الأساقفة الشؤون السياسية المكانية، ثم عقد مؤتمر آخر دُعي إليه رؤساء الطوائف المسيحية من كاثوليكية وغير كاثوليكية ودارت أبحاثه على الأحداث التي جرت بعد التوتر الذي حصل بين الحكومتين اللبنانية والفرنسية.
ففي مؤتمر بكركي الأول في نيسان سنة 1945 دارت المباحثات حول قانون الأحوال الشخصية للطوائف المسيحية، ووجوب إرجاع سلطات المحاكم الدينية إلى حالتها الأولى أسوةً ببقية الطوائف غير المسيحية، وحول تعيين معلمين للدين في المدارس الرسمية، والاتصال بالمراجع الحكومية والنواب لتعديل الأنظمة وفيها أنظمة الإنتخابات، وإحصاء المغتربين المحافظين على لبنانيتهم، وتوزيع الوظائف على الطوائف بالنسبة لتنال كل منها حقها في التمثيل دون تفريط بحقوق الطوائف الأخرى، وأحيل إلى المجلس قانون الأحوال الشخصية فأقرَّه في 22 نيسان سنة 1951.
وفي مؤتمر بكركي الثاني بسط غبطته للمؤتمرين الغاية الداعية لعقده، وهي تبادل الآراء وتمحيصها وتوجيهها إلى الغرض المقصود وهو "تدعيم استقلال لبنان"، فإنه رأى الا يستقل بالرأي في هذه الأمور الخطيرة، فدعا الرؤساء ليشاركوه في درسها من جميع مناحيها بعد أن استطلع رأي جمهرة من المفكرين العلمانيين. وبعد المداولات والمباحثات اتخذ السادة المجتمعون البيان التالي: "إن الغرض من اجتماعنا في هذا الصرح الماروني في 29 أيار من سنة 1945 تحت رئاسة مار أنطون بطرس عريضة بطريرك إنطاكية وسائر المشرق الكلي الطوبى، إنما كان للبحث والمفاوضة في مسائل عديدة يفرضها علينا واجبنا الرعائي والوطني، ونتوخى من تحقيقها مصلحة وطننا اللبناني". وقرّ الرأي على النقاط الآتية، وهي:
تأييد استقلال لبنان وسيادته التامة، التعاون مع الدول المجاورة، حفظ العلائق الودية مع الدول الحليفة التي اعترفت باستقلال لبنان وسيادته.
"أخيراً نرجو دولة فرنسا وباقي الدول الحليفة تأييد استقلال لبنان، وتوطيد الإلفة والسلام ما بين جميع الطوائف والعناصر اللبنانية في كل الأمور العائدة إلى خير لبنان وازدهاره ورجونا من غبطة السيد البطريرك مار أنطون بطرس عريضة الكلي الطوبى أن يتابع اهتمامه لتحقيق هذه الأماني". وضم البطريرك صوته إلى صوت المجتمعين في قصره لدعوة كل المواطنين إلى الإلفة والمحبة والتسامح وللعمل المشترك لتدعيم إستقلال لبنان، والمحافظة على كيانه مضموناً من كل النواحي بمساعدة الدول الحليفة. وقد وقّع السادة المجتمعون هذا المحضر.
البطريرك عريضة في العهد الاستقلالي لما فُكّ الدستور من عقاله في عام 1943، بعد أن بقي معطّلاً منذ أوائل حرب 1939، جرت إنتخابات 1943 التي أسفرت عن قيام برلمان من 55 عضواً. وقد انتخب الشيخ بشارة الخوري، رئيس الكتلة الدستورية، رئيساً للجمهورية اللبنانية فتسلّم مقدرات البلاد وكلّف رياض بك الصلح تأليف الوزارة التي نصّ بيانها على البندين الآتيين:
البند الأول: تعديل الدستور وإزالة النصّ الذي يعطي ممثل فرنسا حق تعطيل الحياة البرلمانية وحصر المسؤوليات في الخارج بالمفوضيَّات اللبنانية.
البند الثاني: عدم القبول بمركز ممتاز لأية دولة أجنبية واشتراك لبنان في مؤتمر سان فرنسيسكو طليقاً من كلّ إلتزام أجنبي.
ولم تمض فترة وجيزة الاّ وكان لبنان قد تسلّم كامل المصالح والصلاحيات التي مارسها لحسابه طوال ربع قرن المنتدبون الفرنسيون. وحين ألقيت مقاليد الرئاسة الأولى إلى الرئيس الحالي الأستاذ كميل نمر شمعون إنصرف إلى المهمة الملقاة على عاتقه بكل غيرة وأمانة، على الرغم مما يعترضه من صعاب، وقد تمكن من تحقيق الكثير مما كان يرجوه اللبنانيون على يده لوطنهم في جميع المرافق والحقول. ومنذ فجر العهد الاستقلالي كانت بكركي تشدّ أزر الحكم الوطني وتمدّه بكل عون يعود بالخير على الجميع. وقد كان لها شأنها وكلمتها المسموعة في القضايا الحيوية الكبرى.
لكل من الرئيسين مدّ البطريرك عريضة يداً مخلصة من أجل تحقيق أماني الشعب المشروعة فاستفاد العهدان من تأييده وأتى التعاون بين غبطته وكلٍ من صاحبي الفخامة بثمار طيبة. ذلك أن البطريرك عريضة لم يكن يبغي من دنياه سوى خدمة الشعب ولبنان حتى أنّه في ساعاته الأخيرة أوصى الرئيس شمعون بأن يحافظ دائماً على استقلال الوطن وكيانه.
عن كتاب "بطاركة الموارنة"