فلما رأى قائد المائة

"فلَمّا رأى قائِدُ المائَةِ الواقِفُ تُجاهَهُ أنَّه لَفَظَ الرُّوحَ هكذا، قال: كانَ هذا الرَّجُلُ ابنَ اللهِ حَقًّا!" (مر15/ 39)
القدّيس أوغسطينُس 

"في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله" (يو1/ 1). هو يشبه نفسه؛ ما هو عليه، سيبقى عليه إلى الأبد؛ هو لا يستطيع أن يتغيّر، إنّه الكائن. إنّه الاسم الذي أطلع خادمه موسى عليه: "أنا هو مَن هو. كَذا تَقولُ لِبَني إسْرائيل: أنا هو أرسَلَني إلَيكم" (خر3/ 14). مَن يستطيع أن يفهم ذلك؟ أو مَن يستطيع أن يصل إليه، على افتراض أنّه يسيطر على قوى نفسه كلّها ليصل نوعًا ما إلى "هو مَن هو"؟ سأقارنه بمهاجر يرى وطنه من بعيد لأنّ البحر يفصل بينهما؛ هو يرى إلى أين يجب أن يذهب، لكنّ الظروف لا تسمح له بذلك. هكذا، نحن نرغب في الوصول إلى هذا المرفأ النهائي الذي سيكون لنا، حيث يوجد "هو مَن هو"، لأنّه هو وحده يبقى دائمًا كما هو، لكنّ محيط هذا العالم يعيق طريقنا.  
كي يمنحنا الظروف الملائمة لبلوغ هذا المرفأ، جاء ذاك الذي يدعونا من هناك؛ اختار خشبة ليجعلنا نعبر البحر: أجل، لا يستطيع أحد أن يعبر محيط هذا العالم إلاّ محمولاً على صليب المسيح. حتّى الأعمى يستطيع معانقة هذا الصليب؛ إن كنت لا ترى جيّدًا إلى أين تذهب، لا تترك هذا الصليب: هو سيقودك من تلقاء نفسه. يا إخوتي، هذا ما أودّ أن أدخله إلى قلوبكم: إن أردتم أن تعيشوا بروح التقوى، بالروح المسيحيّة، تمسّكوا بالمسيح كما جعل نفسه من أجلنا، بغية الإنضمام إليه كما هو، وكما كان منذ البدء. لذا، نزل إلينا، لأنّه تجسّد كي يحمل المعاقين وكي يجعلهم يعبرون البحر ويصلون إلى الوطن، حيث تنتفي الحاجة إلى المركب لأنّه لم يعد هنالك محيط للعبور. بالمختصر، يستحسن عدم رؤية "هو مَن هو" بالروح لكن تقبيل صليب المسيح، بدل رؤيته بالروح واحتقار الصليب. من أجل سعادتنا، علّنا نتمكّن في آنٍ معًا أن نرى إلى أين نذهب وأن نتمسّك بالمركب الذي يقلّنا! نجح البعض في ذلك، ورأوا ما هو. لأنّه رآه، قال يوحنّا: "في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله" (يو1/ 1). لقد رأوه؛ ولكي يصلوا إلى ما كانوا يرونه من بعيد، تمسّكوا بصليب المسيح، ولم يحتقروا تواضع المسيح.