"مجدنا شهادة ضميرنا"

For-our-rejoicing-is-this-the-testimony-of-our-conscience

"مجدنا شهادة ضميرنا"

مع ريمون ناضر – شباط 2017

نَفتَتِح اليوم سنة "الشهادة والشهداء" وهو العنوان الذي اختارته كنيستنا المحليّة للسنة الممتدّة من 9 شباط عيد مار مارون وحتى 2 آذار 2018 عيد مار يوحنا مارون.

ننطلق من قول لمار بولس في رسالته 2 قورنتس: "مجدنا شهادة ضميرنا" ونسأل ما هو المجد الذي نسعى إليه؟ ما هو مجد المسيحيّ؟ وما هي شهادتنا؟ لمَن نشهد وكيف نشهد؟

كلمة استُشهد تعني طُلِبَ للشهادة أو استُدعي ليَشهد فشهد لإيمانه. وملايين الأشخاص عبر تاريخ الخلاص والكنيسة استُشهدوا ودفعوا حياتهم ثمناً لشهادتهم لإيمانهم. في سِفر المكابيين الثاني، إمرأة يهوديّة رأت أولادها السبع يُعذّبون ويُقتلون أمامها رفضاً لنكران إيمانهم والتجديف على إلههم ومخالفة تقاليدهم وشريعتهم وكانت تشجّعهم وتقوّيهم ثمّ قُتِلَت هي بدورها. وكانَ اليهود يواجهون بشهادة كبيرة حكم الملك أنطيوخوس الرابع الذي أراد إجبار اليهود على نكران إلههم ومخالفة شريعتهم فكان قِسم مِنهم يَستشهد من أجل إيمانه حتى اندلعت ثورة المكابيين واستعادوا مقدّساتهم.

في تاريخ كنيستنا المقدّسة آلاف الرموز للشهادة حتى الإستشهاد نذكر بعضهم:

  1. القديس إغناطيوس الإنطاكي. أسقف إنطاكية، فرحَ فرحاً عظيماً كفرَح الأطفال عندما تبلّغ الحُكم عليه بالموت واعتبرَ بَذْل حياته تعبيراً عن حبّه ليسوع وقد قال لأبناء رعيّته: "لا تعوقوني أرجوكم، أنا حنطة الله وعندما أطحن بين أنياب الوحوش سأصبح خبزاً لله وعندما لا يعود العالم يراني سأكون قد أصبحت في الحقيقة تلميذاً للمسيح."
  2. القديس بوليكاربوس أسقف سميرنا تلميذ يوحنا، رفض حرق البخور للقيصر وقال له: "86 سنة خدمت المسيح فلن أخونه أبداً" فحُكم عليه بالحرق على خشبة ولكن النار لم تنل منه فطُعِن بحربة.
  3. القديس لورانس الذي كلّفه البابا سيكستوس أن يكون قيّماً على كنوز الكنيسة في زمن فاليران القيصر الذي طلب منه جمع كنوز الكنيسة وتسليمها له بمهلة ثلاثة أيام. فباعها ووزّعها على الفقراء. وعند انقضاء المهلة جاء إلى القيصر مع جميع الفقراء والمرضى والمهمّشين وقال له: "هؤلاء هُم كنوز الكنيسة التي طلبت منّي أن أسلّمها إليك." فحَكَمَ عليه القيصر بالشوي. فوضعوه على النّار وبدأوا يشوونه وبعد قليل قال للجنود: "لقد نضج جنبي هذا، فاقلبوني على الجنب الآخر". ولمّا احترق كلّه قال لهم: "لقد استويت الآن كلّياً" ومات.
  4. القديسين قوزما ودميانوس أخوين طبيبين، كانا يطبّبان النّاس مجاناً ويدعونهم للمسيحيّة. واجَهَا الغرق والنّار والصلب للتوقف عن رسالتهما، ثمّ قطَعَ الإمبراطور ديوقليمتيان رأسيهما ودفنهما مع إخوتهم الثلاثة في قورش.
  5. في زمننا الحديث واجهت الكنيسة البولونيّة النازيّين ثمّ الشيوعيّين الذين أرادوا مَحوها من الوجود فمات الملايين من أبنائها في معسكرات الإبادة وبرز بينهم مكسيميليان كولبي وإديت شتاين وصَمَدَت الكنيسة بفضل شهدائها حتى سنة 1979، حين زارها القدّيس البابا يوحنا بولس الثاني في عزّ الحكم الشيوعي وفي قلب وارسو احتشد الملايين أمام البابا يهتفون: "نريد الله، نريد الله..." وهناك بدأت نهاية الشيوعيّة. فشهادة الصليب كانت أقوى من الصواريخ النوويّة والدبّابات والأسلحة.
  6. في المكسيك في زمن ثورة 1920 واضطهاد الكنيسة برز طفلٌ يُدعى خوسي سانشيز داريو إبن ال14 عاماً الذي أُسِر وعُذّبَ، وطُلِبَ منه نكران إيمانه، ومزّقوا رجليه وأجبروه على السير 10 كلم نحوَ المدافن، وعند وصوله صرخ  viva Christore وقتلوه على الفور.
  7. بالأمس القريب خطف تنظيم داعش 21 قبطيّاً واقتادهم على الشاطئ الليبي ليَذبحهم، ركعوا على رمال الشاطئ وكانوا يتمتمون: "يسوع المسيح هوَ الربّ" واحد بينهم كانَ من تشاد وهوَ غير مسيحي قال لجلّاديه عند إقتياده إلى الذبح "إلههم هوَ إلهي" لشدّة تأثّره بإيمانهم وذُبِحَ معهم.

كثيرةٌ جداً وعظيمةٌ جداً هي أخبار شهداء الإيمان في كنيستنا. هل هؤلاء النّاس هُم مجانين؟ لماذا يموتون؟ كلّ يوم في كلّ أنحاء العالم إخوة لنا يموتون ويستشهدون من أجل إيمانهم، إيماننا. الذي يدفعهم إلى هذا الإستشهاد هوَ حبّ المسيح والشوق إلى السّماء. الإستشهاد هو تعبير عن حبّنا للّذي بَذَلَ نفسه من أجلنا إبن الله الوحيد على الصليب. هناك الشهادة البيضاء والشهادة الحمراء: الشهادة البيضاء هي شهادة الفَم وشهادة القدوة، أمّا الشهادة الحمراء فهي شهادة الدم.

والآن أطرح على نفسي هذا السؤال:
هل أنا شهيد؟ أنا المسيحي قد مُتّ مع المسيح عن هذا العالم بالمعموديّة وأموت معه كلّ يوم وهوَ يحيا فيّ كلّ يوم "لست أنا الحيّ بل المسيح يحيا فيّ". نحن نعيش حياتنا على هذه الأرض كأننا مُتنا وقمنا فنحن نعيش هنا، قبل الموت، حياة ما بعد الموت.

نحن نتوق إلى الحياة الأبديّة الحقيقيّة ونتخلّى عن الحياة الزائفة في هذه الدنيا التي ليست سوى خيالات ونعتبرها نفاية مِن أجل المسيح. هل نحن اليوم أوفياء للمصلوب؟ نحن ما زلنا اليوم في زمن الشهادة والإستشهاد فأين شهادتنا؟ وعلى أعتاب عيد مار مارون نسأل: أين شهادة موارنة اليوم؟ لقد كان مجد الموارنة عبر العصور هوَ شهادة ضميرهم: الشهادة لمسيحهم وحبّهم لهُ وتعلّقهم به وإيمانهم به. لا مجد للموارنة إلّا شهادتهم للمسيح في هذا الشرق. فلا أمجاد أرضيّة لنا ولم يَبنِ أجدادنا أمجاداً أرضيّة نتغنّى بها. مجدهم قداستهم، وفخرهم طهارتهم ونقاؤهم وقيَمهم.

أين نحنُ اليوم؟ لن يرَ العالم الله فينا إلّا إذا حملنا الصليب وعُدنا للشهادة الحقيقيّة وهيَ مجدنا. وكنيسة بلا شهداء هي كنيسة بلا يسوع (البابا فرنسيس) ودَم الشهداء هو بذور المسيحيين، فالشهداء يزرعون مسيحيين للمستقبل ونحن اليوم زَرْع بذور الشهداء الذين سبقونا.

قوّتنا شهادتنا، ومجدنا شهادة ضميرنا، شهادة للحقّ الذي هو المسيح حبّنا الوحيد ومبتغى وجودنا. الشهادة هي أصدق تعبير والأكثر مباشرة عن حبّنا للمسيح.

"فالدم هو الحبر الوحيد الذي تُكتب فيه المحبّة والباقي كلّه حبر على ورق".

صلاة:
"في سنة الشهادة والشهداء، نرفع عقولنا وأفكارنا إلى أمنا العذراء مريم سلطانة الشهداء، راجين أن تكون هذه السنة زمن رجاء وصمود، من أجل أن يَكتمل عملُ الفداء الذي بدأه وأتمّه المسيح ربنا. ولتكن هذه السنة حافزًا لإقتفاء آثار شهودنا وشهدائنا، فيكونوا شفعاء لنا ومثالاً في إتّباع المسيح والشهادة لمحبته، في العطاء والتضحية والغفران والمصالحة."

(من رسالة البطريرك الراعي، لسنة الشهادة والشهداء 2017)